الحادثة الثانية: عند مكان الجباية
ثم ننتقل للحادثة الثانية في لوقا٥، فنقرأ فيها «وَبَعْدَ هذَا خَرَجَ (يسوع) فَنَظَرَ عَشَّارًا اسْمُهُ لاَوِي جَالِسًا عِنْدَ مَكَانِ الْجِبَايَةِ، فَقَالَ لَهُ: اتْبَعْنِي فَتَرَكَ كُلَّ شَيْءٍ وَقَامَ وَتَبِعَهُ. وَصَنَعَ لَهُ لاَوِي ضِيَافَةً كَبِيرَةً فِي بَيْتِهِ. وَالَّذِينَ كَانُوا مُتَّكِئِينَ مَعَهُمْ كَانُوا جَمْعًا كَثِيرًا مِنْ عَشَّارِينَ وَآخَرِينَ» (لوقا٥: ٢٧-٢٩).
السُمعة
فهنا تقابل المسيح مع تلميذ من فئة العشارين المكروهين جدًا لدى الشعب اليهودي، لأنهم كانوا يتعاملون مع الحكومة الرومانية المحتلة، في جني الضرائب الباهظة من الشعب، والتي غالبًا ما تكون فوق طاقتهم، وفي نفس الوقت فإن هؤلاء العشارين كانوا يتلاعبون في أرقام الضرائب لصالحهم، وهذا ما اعترف به أحدهم وهو زكا (لوقا١٩: ٨). وكان الكتبة والفريسيين يصنفون العشارين مع فئة الخطاة والزناة، ويعتبروهم من أرزل أصناف المجتمع (أنظر متى٩: ١١؛ ومرقس٢: ١٥؛ ولوقا١٥: ١).
ومع ذلك، نقرأ ما حدث في إنجيل لوقا هكذا «وَبَعْدَ هذَا خَرَجَ (يسوع) فَنَظَرَ عَشَّارًا اسْمُهُ لاَوِي جَالِسًا عِنْدَ مَكَانِ الْجِبَايَةِ، فَقَالَ لَهُ: اتْبَعْنِي فَتَرَكَ كُلَّ شَيْءٍ وَقَامَ وَتَبِعَهُ. وَصَنَعَ لَهُ لاَوِي ضِيَافَةً كَبِيرَةً فِي بَيْتِهِ. وَالَّذِينَ كَانُوا مُتَّكِئِينَ مَعَهُمْ كَانُوا جَمْعًا كَثِيرًا مِنْ عَشَّارِينَ وَآخَرِينَ» (لوقا٥: ٢٧-٢٩).
ورغم أن اختيار المسيح لمتى العشار تلميذًا له، يمكن أن يعرضه لانتقادات عديدة من اليهود، خاصةً أن المسيح التقاه وهو جالس في مكان «الجباية»، والناس مصطفة أمامه رغمًا وقسرًا.
إلا أن المسيح - المملوء نعمة - اختار متى العشار تلميذًا له، دون النظر لماضيه، بل ودخل منزله، وتلامس مع أصدقائه ومجتمعه، وتحمل تبعيات كل هذا عليه.
وقدّر متى هذه النعمة، فلما سرد قصته في إنجيله، سردها هكذا «وَفِيمَا يَسُوعُ مُجْتَازٌ مِنْ هُنَاكَ، رَأَى إِنْسَانًا جَالِسًا عِنْدَ مَكَانِ الْجِبَايَةِ، اسْمُهُ مَتَّى. فَقَالَ لَهُ: اتْبَعْنِي. فَقَامَ وَتَبِعَهُ. وَبَيْنَمَا هُوَ مُتَّكِئٌ فِي الْبَيْتِ، إِذَا عَشَّارُونَ وَخُطَاةٌ كَثِيرُونَ قَدْ جَاءُوا وَاتَّكَأُوا مَعَ يَسُوعَ وَتَلاَمِيذِهِ» (متى٩: ٩، ١٠)؛ فقد أضاف متى أنه إنسانًا، ولم يذكر أي شيء عن الضيافة الكبيرة التي صنعها، ومن هنا نستنتج أن المسيح لا يشترط السُمعة، ولكن تقدير النعمة.
ما أميزك أيها المسيح القائد... لا تشترط أن يكتب تلاميذك في سيرته الذاتية CV كفاءته... أو خبرته... أو مكان عمله السابق... فأنت لا تبحث فيهم عن كفاءة، أو خبرة، أو معرفة، أو حتى سُمعة... ولا تستعفي من أن توظف معك من لا يُشرف ماضيهم... ولكنك تبحث في تلاميذك عن إخلاص بلا رياء... وإيمان بلا شك... وطاعة بلا تجزئة... وترك بلا تردد.
الاختيار الجماعي
وبعد كل هذه المقابلات الفردية بين المسيح القائد وتلاميذه المدعوين، نقرأ عنه «وَفِي تِلْكَ الأَيَّامِ خَرَجَ إِلَى الْجَبَلِ لِيُصَلِّيَ. وَقَضَى اللَّيْلَ كُلَّهُ فِي الصَّلاَةِ لِلَّهِ. وَلَمَّا كَانَ النَّهَارُ دَعَا تَلاَمِيذَهُ وَاخْتَارَ مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ الَّذِينَ سَمَّاهُمْ أَيْضًا رُسُلاً» (لوقا٦: ١٢، ١٣).
وهو أمر يثير الإعجاب جدًا، فالمسيح لم يتكل على نتائج وتقارير المقابلات التي أجراها، رغم دقتها وكثرة تفاصيلها، لكنه طلب إرشاد الله أبيه، وقضى الليل كله في الصلاة، وفي الصباح دعى تلاميذه، واختار الاثني عشر رسولاً منهم.
ثم جاءت قائمة التلاميذ المختارين هكذا: «سِمْعَانَ الَّذِي سَمَّاهُ أَيْضًا بُطْرُسَ وَأَنْدَرَاوُسَ أَخَاهُ. يَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا. فِيلُبُّسَ وَبَرْثُولَمَاوُسَ. مَتَّى وَتُومَا. يَعْقُوبَ بْنَ حَلْفَى وَسِمْعَانَ الَّذِي يُدْعَى الْغَيورَ. يهُوذَا بْنَ يَعْقُوبَ وَيَهُوذَا الإِسْخَرْيُوطِيَّ الَّذِي صَارَ مُسَلِّمًا أَيْضًا» (لوقا٦: ١٤-١٦).
أما مرقس فقد أضاف لنا جزءًا حيويًا، لنا فيه درسًا روحيًا هامًا، فقال: «ثُمَّ صَعِدَ (أي المسيح) إِلَى الْجَبَلِ وَدَعَا الَّذِينَ أَرَادَهُمْ فَذَهَبُوا إِلَيْهِ. وَأَقَامَ اثْنَيْ عَشَرَ لِيَكُونُوا مَعَهُ، وَلِيُرْسِلَهُمْ لِيَكْرِزُوا، وَيَكُونَ لَهُمْ سُلْطَانٌ عَلَى شِفَاءِ الأَمْرَاضِ وَإِخْرَاجِ الشَّيَاطِينِ» (مرقس٣: ١٣-١٥).
فأولوية المسيح لتلاميذه؛ تختلف عن أي قائد ديني أو سياسي عرفته البشرية؛ فهو يريدهم أن يكونوا أولاً في علاقة حقيقية معه، ثم يرسلهم ثانيًا إلى الناس معطّرين بطيب محضره، وهذا هو الترتيب الطبيعي لأي كرازة، أو خدمة، أو حياة ناجحة.