على صفحتها على الفيسبوك ذكرت إحدى الأخوات قصة بسيطة تداولها الكثيرون، لمست قلبي وخاطبت ضميري، إذ قالت:
طوال سني دراستي في مدرسة ”القلب المقدس“، كنت متفوقة جدًا دراسيًا. وكنت فخورة بنفسي، وحريصة أن أستمر في تفوقي وتميّزي. ولكن كلمة ”أشكرك يا رب“ لم تعرف طريقها أبدًا إلى لساني، وكان قلبي مُبرّمَجًا دائمًا على الشكوى والتذمر!
وعندما انتقلت إلى المرحلة الإعدادية، توَّلت تدريسنا راهبة اسمها ”سير مِنديس“. وكانت حكايتها حكاية! كانت شابة أسبانية، فائقة الجمال، وفي منتهى الذكاء. من المؤكد أنها لو ظلت في بلدها الأوربي، لأصبحت دكتورة نابغة، أو مهندسة عبقرية. لكنها تركت موطنها وأهلها، وجاءت إلى مصر لتُدرِس العلوم والرياضيات للأطفال في مصر. والمأساة أنها أثناء قيادتها لسيارتها، مع ثلاث راهبات أخريات، في طريقها إلى صعيد مصر، لمساعدة بعض المحتاجين هناك، تعرَّضت لحادثة مريعة، حكمت عليها أن تقضي ما بقيَّ من عمرها رهينة الشلل النصفي، وحبيسة كرسي متحرك، وكانت آنذاك في بداية الثلاثينات من عمرها، أو ”في عز شبابها كما يقولون“.
كانت ”سير مِنديس“ تقودنا أيضًا في فرصة الصلاة اليومية. وكانت كل فرصة تبدأ بقولها: ”أغمضوا عيونكم لكي نُصلي، ونشكر ربنا“. ولكنني كثيرًا ما كنت لا أُغمِض عيني وأتأملها وهي تُصلي. كنت أتعجب دائمًا من السلام والهدوء المرتسمان على وجهها الذي يلمع، ومن الابتسامة التي لا تفارقها، والخشوع والرهبة اللذين يكتنفانها. ودائمًا كنت أتساءل: “هي بتشكر ربنا على إيه؟! على الإعاقة والشلل؟! ولا على الكرسي المتحرك المسجونة عليه؟!“ وكنت دائمًا أتعجب من أنها مش مخاصمة ربنا! وكانت دهشتي تتزايد عندما كانت تتحدث إلينا عن محبة الله، كما لو أنها تتمتع بما لم يتمتع به سواها.
وفي إحدى المرات، كانت تتكلَّم عن القناعة والشكر في كل حين، وفي كل الظروف، وقالت: ”لو عندي عربية صغيرة، فبدل ما أقول: يا رب، لماذا لم تُعطني عربية كبيرة؟ أقول: أشكرك يا رب لأنك أعطيتني عربية صغيرة. ولو لم تكن عندي أي عربية، فبدل ما أقول: يا رب لماذا تحرمني من عربية صغيرة، أقول: أشكرك يا رب لأنك أعطيتني قدمين أقدر أمشى بهما“. تأملتها على كرسيها المتحرك، وقدميها المشلولتان تتدليان، ولم يعجبني كلامها، فضحكت بسخرية! ولمحتني، فسألتني عن سبب ضحكي؟! فصارحتها متسائلة: ”هو الشخص الذي سمح الرب له بالإعاقة والشلل، هل لديه ما يشكر الله عليه؟!“
وبالرغم من سؤالي الجارح، لكنها بثبات لا يهتز، وبدون أدنى إحساس بالنقص وصغر النفس والرثاء لها، وبثقة في محبة الرب، وبيقين في كفاية شخصه، قالت: ”تتساءلين أنا باشكر الرب على إيه؟ أنا باشكره على الوقت اللي كنت فيه ماشية على رجليَّ، وباشكره على نوره اللي منور قلبي وحياتي وآخرتي... ما تقلقيش عليَّ... عندي كتير أشكر الرب عليه... المشكلة عمرها ما كانت في نقص دواعي الشكر... المشكلة دايمًا في العين اللي مش شايفة البركات والنعم، وفي عمى القلب المتذمر غير المُكتفي! في إننا في أغلب الأحيان ننشغل كثيرًا في إحصاء مشاكلنا، لدرجة أننا ننسى أن نُعدّد بركاتنا“.
وأردفت: ”لما ربنا يُعطينا نعمة أو عطية، نقبلها بدون تفكير ونتمتع بها. لكن لو سحبها مِنَا، علينا أن نقول من القلب: «أَالْخَيْرَ نَقْبَلُ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَالشَّرَّ لاَ نَقْبَلُ؟» (أيوب٢: ١٠). إن مَنْ أعطى لهُ الحق أن يسترد ما سبق أن أعطاهُ، في أي وقت شاء. وحتى لو الحيرة زادت، والقلب كان بيبكي بدل الدموع دم، أجري على الرب «أَسْكُبُ أَمَامَهُ شَكْوَايَ. بِضِيقِي قُدَّامَهُ أُخْبِرُ» (مزمور١٤٢: ٢). ويجب ألا أحتفظ بمرارة في قلبي من جهة الرب! يجب ألا أُعطي إبليس فرصة ليُحوِّل إلهي المُحبّ – في عيني - مِن أبّ مُحبّ، لجلاد قاسى “!
كان توَّجه فكرها وقلبها أن تشكر الرب على إنعامات الماضي، وعلى حاضرها المؤلم، وجعلت في قلبها أن تثق في محبة الله وحكمته، وتظل تشكره على المستقبل! ماذا أقول لها وأنا - في الرحب والوسع ووسط ظروفي المواتية - مُتشككة في أفكار الرب من نحوي، وهي تريد أن تقنعني أن أشكره في الضيق؟!
قلت لها: ”هل لكِ أن تُخبريني أين كانت محبة الرب عندما ماتت زميلتنا الطالبة الشهر الماضي؟! بصراحة أمها معذورة لو ما دخلتش كنايس بعد كدا!“
قالت لي بشفقة على شكّي الواضح في محبة ربنا: ”مش كل حاجة بنقدر نفهمها «لِمَاذَا تُخَاصِمُهُ؟ لأَنَّ كُلَّ أُمُورِهِ لاَ يُجَاوِبُ عَنْهَا» (أيوب٣٣: ١٣). أنا مش ها أختلف معاكي في إنه إذا كان بتر أعضاء الجسم قاسي وصعب قيراط، فبتر أحباب القلب أقسى وأصعب ٢٤ قيراط! لكن لو إحنا خاصمنا ربنا ها نروح لمين؟! مهما حصل، قولي لنفسك: الرب صالح. والحق هو: أن الله صالح، سواء بدت اختياراته صالحة لنا أم لا، سواء شعرنا بذلك أو لم نشعر، هو صالح. سواء اتضحت هذه الحقيقة في حياتي وحياتك أم لا، فهو لا يزال صالحًا“.
وقالت لي أيضًا: «نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ الأَشْيَاءِ تَعْمَلُ مَعًا لِلْخَيْرِ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَ اللهَ، الَّذِينَ هُمْ مَدْعُوُّونَ حَسَبَ قَصْدِهِ» (رومية٨: ٢٨). هل تعرفين ما هي طبيعة الخير الذي تقصده هذه الآية. الخير هو أن نأتي إلى الرب يسوع المسيح بالإيمان، وأن ننال القبول الأبدي أمام الله، وأن نكون مشابهين صورة ابن الله الأدبية (رومية٨: ٢٩). إن كل ما يُساعد المؤمن على جعله شبيهًا بالمسيح، هو خير، بصرف النظر عن تأثير ذلك على راحته أو صحته، أو نجاحه أو سروره.
وقالت أيضًا: إن تعريف الغباوة هو ”البحث عن السعادة بعيدًا عن الله!“ لو حاولتِ تدوري عليها في أشياء، أو في أشخاص غير الله، مش ها تجني غير كل تعاسة! أنا بصلي دايمًا من أجلك! خسارة تضيعي وقتك في الغباوة!
دروس كثيرة تعلَّمتها من ”سير مِنديس“، لكن أهم درس فيهم، أخدت سنين طويلة علشان أفهمه وأستوعبه، مع أنه درس بسيط: هو ”تعريف الغباوة: البحث عن السعادة بعيدًا عن الله!“ لو كنت فهمته من زمان، كنت وفرت على نفسي وجع قلب كتير جدًا، لأن «مَعْرِفَةُ الْقُدُّوسِ فَهْمٌ» (أمثال٩: ١٠)، «أَمَّا الأَغْبِيَاءُ فَيَمُوتُونَ مِنْ نَقْصِ الْفَهْمِ» (أمثال١٠: ٢١).
إن جُودَ اللهِ يدعو للسُّـرورْ
زمَنَ الخَيرِ وفي وَقتِ الشـُّرورْ
فمتى هبَّتِ الأحزاَنُ تثورْ
بَركاتِ الربِّ عدِّدْ شاكِرًا
بركاتِ الربِّ عدِّدْ شاكِرًا
واعترف بالجُودِ حتّى في العناءْ
كلَّ صُبحٍ ومساءٍ ذاكِرًا
جُودَهُ السّامي بحَمدٍ وثَناءْ