«فَصَعِدَ أَبْرَامُ مِنْ مِصْرَ هُوَ وَامْرَأَتُهُ وَكُلُّ مَا كَانَ لَهُ، وَلُوطٌ مَعَهُ إِلَى الْجَنُوبِ. وَكَانَ أَبْرَامُ غَنِيًّا جِدًّا فِي الْمَوَاشِي وَالْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ. وَسَارَ فِي رِحْلاَتِهِ مِنَ الْجَنُوبِ إِلَى بَيْتِ إِيلَ، إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي كَانَتْ خَيْمَتُهُ فِيهِ فِي الْبَدَاءَةِ، بَيْنَ بَيْتِ إِيلَ وَعَايَ، إِلَى مَكَانِ الْمَذْبَحِ الَّذِي عَمِلَهُ هُنَاكَ أَوَّلاً. وَدَعَا هُنَاكَ أَبْرَامُ بِاسْمِ الرَّبِّ» (تكوين١٣: ١-٤).
كلمتان تلفتا انتباهنا في هذا الجزء الذي يُفتتح به الأصحاح «الْبَدَاءَةِ، ... أَوَّلا». نكتشف فيهما روعة وكمال رد النفس الإلهي. فإن المؤمن الذي انحرف عن مركزه الروحي وتعطَّلت شركتهُ مع الرب، لا يمكن أن يكتفي الله إلا برده إلى مركزه الأول. وأما نحن، ففي بِرّ قلوبنا الذاتي كنا نتصوَر أنه يكفي أن يأخذ المؤمن الراجع مركزًا أقل من المركز الذي كان يشغله قبل انحداره الروحي. هكذا يرد الله النفس ولا يليق به أن يرد النفس إلا على هذه الصورة؛ فالابن الضال لما رجع إلى أبيه جلس على المائدة معه، وبطرس لما رد الرب نفسه استطاع يخاطب اليهود بكل شجاعة »أَنْتُمْ أَنْكَرْتُمُ الْقُدُّوسَ الْبَارَّ» مع أنه الخطأ ذاته الذي سقط فيه حين أنكر سيده، لكن النفس الراجعة إلى الله تشعر بالشر الذي وقعت فيه وتبتعد عنه. ولذلك عندما يرد الرب نفوسنا لا نستخف بالخطية فلا نعود إليها مرة أخرى، ولكن يقول الرب للنفس التائبة «اذْهَبِي وَلاَ تُخْطِئِي أَيْضًا «(يوحنا٨: ١١).
كان إبراهيم يتميز بثلاثة امتيازات
١. دعوة مجيدة: ظهر له إله المجد ودعاه ليكون أبًا لجمهور كثير.
٢. مواعيد أكيدة: وعد الرب إبراهيم بأنه يباركه ويجعله بركة ويعطيه نسلاً مباركًا وسَيُملكهُ الأرض الذي أتىَ به إليها.
٣. مكانة فريدة: فهو رجل الإيمان العظيم أبو المؤمنين، خليل الله.
لكن للأسف اِنحدر اِنحدارًا متواليًا نحو الجنوب، التي هي مصر التي ترمز إلى العالم.
من هنا يمكن أن نرى ثلاثة أسباب للانحدار المتوالي:
١- الانزلاق التدريجي نحو الأمور العالمية
ينزلق المؤمن شيئًا فشيًا للأمور العالمية عندما نسمح لأنفسنا أن نشاكل أهل العالم في مظهرهم وَكلامهم، وتدريجيـًـا نفكر ونتصرف بذات الطريقة. لكن الذي هو أخطر من ذلك أن تكون لنا ذات التوجهات والتطلعات.
٢- الانحناء تحت ثقل الضغوط اليومية
عندما تنقطع الشركة مع الرب يشعر المؤمن بالفراغ الداخلي والجوع الروحي فيحاول أن يسد هذا الاحتياج بأشياء في العالم، ومن هنا يبدأ طريق الانحدار.
٣- مواجهة مخاوف المستقبل بحلول بشرية
التجارب والأزمات التي نواجهها في حياتنا هي المحك الذي يكشف توجهات قلوبنا والموارد التي عليها نعتمد. يبدأ الانحدار عندما نشعر بالخطر، فنسعى لتأمين أنفسنا بطريقة التفكير الإنسانية والمنطقية. نظن أن خططنا تنجح دائمًا، لكنها في الحقيقة لا تخلو من الثغرات التي يدخل منها العدو بما يسمح أن يسلب ما هو ثمين بمقاييس الله دون أن ندري. قد يسلب ثقتنا في مواعيد الرب أو يسعى لتعظيم كل ما هو بشري ليكون الإنسان هو المركز بدلا ًمن الله.
في هذا الفصل نلاحظ أيضًا ثلاثة خسائر أصابت إبراهيم في مصر يمكننا أن نرى فيهم ثلاث من أفدح الخسائر التي تصيب المؤمن عندما يتهاون ويعطي لروح العالم فرصة أن تتسلل لحياته وبيته.
١- ضياع شريك الحياة
كما أن ابراهيم تسبب في أن سارة تؤخذ منه، كذلك هناك خطر كبير أن مؤمنًا يترك شريكة حياته تحت تأثير العالم، وهي في ذاتها أضعف من أن تقاوم جاذبيته وبريقه. إننا قد نخطئ في حق من ارتبطنا به عندما نتهاون في أمر انفصالنا عن مؤثرات الشر المحيطة بنا فنهيء المجال لشريك الحياة أن يقع في فخ من فخاخ العدو التي ينصبها للمؤمنين في هذه السكك المعتمة روحيًا.
٢- سكنى العالم في قلوب الأبناء
لوط يمثل الشباب الذين يتأثروا بأفكار العالم لدرجة أن السنين لم تمحُ ما انطبع في ذهنه واختُزن في ذاكرته وما حظي بإعجابه وتعلق به قلبه. أليس هذا ما حدث مع لوط بالفعل حين اختار دائرة الأردن ليسكن فيها إذ رآها تشبه مصر التي وصفها بأنها كجنة الله. مع أنه خرج بجسمه من مصر لكن مصر لم تخرج من قلبه. خسارة فادحة أن نعطي العدو فرصته ليتمم مخططه الأثيم بأن يعطل بل يطفئ شهادة الجيل القادم بسيطرته على أفكار ومشاعر واختيارات أولادنا.
٣- سلب السلام الداخلي والشهادة للرب
يفقد المؤمن سلامهُ الداخلي عندما يكون في المكان الخاطئ لكن الأمر الأصعب أن يفقد تأثيره وتنطفئ شهادته. لم نقرأ أن ابراهيم رجل الإيمان العابر والعابد أنه بنى مَذْبَحا ودعَا باسم الربِ فيِ مصر. أي شيء أثمن من شهادة المؤمن للرب! كما أن الملح يفقد قيمته إن فقد ملوحته؟ هكذا أن فقد المسيحي شهادته فلا معنى لمسيحيته.
بركات الرجوع التي اختبرها إبراهيم
١. استعاد إبراهيم مركزه أمام الرب
«وَسَارَ فِي رِحْلاَتِهِ مِنَ الْجَنُوبِ إِلَى بَيْتِ إِيلَ، إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي كَانَتْ خَيْمَتُهُ فِيهِ فِي الْبَدَاءَةِ، بَيْنَ بَيْتِ إِيلَ وَعَايَ، إِلَى مَكَانِ الْمَذْبَحِ الَّذِي عَمِلَهُ هُنَاكَ أَوَّلاً. وَدَعَا هُنَاكَ أَبْرَامُ بِاسْمِ الرَّبِّ») تكوين١٣: ٣-٤)، عاد إبراهيم لمركزه كعبد للرب. لا يوجد شيء يقارن بروعة السجود للرب والشهادة عن الرب ونحن متغربون هنا على الأرض.
٢. استجاب إبراهيم مع معاملات الرب
بعد رجوعه للمكان الصحيح نقرأ عن السلوك السليم الذي سلكه إبراهيم بعدما تشاجر رعاة لوط مع رعاته. نرى وداعة إبراهيم وقناعته. رخصت في عينيه المغانم المادية وزادت قيمة المحبة الأخوية» فَقَالَ أَبْرَامُ لِلُوطٍ: لاَ تَكُنْ مُخَاصَمَةٌ بَيْنِي وَبَيْنَكَ، وَبَيْنَ رُعَاتِي وَرُعَاتِكَ، لأَنَّنَا نَحْنُ أَخَوَانِ. أَلَيْسَتْ كُلُّ الأَرْضِ أَمَامَكَ؟ اعْتَزِلْ عَنِّي. إِنْ ذَهَبْتَ شِمَالاً فَأَنَا يَمِينًا، وَإِنْ يَمِينًا فَأَنَا شِمَالاً» (تكوين١٣: ٨-١٠).
٣. استفاد إبراهيم من إكرام الرب
«قَالَ الرَّبُّ لأَبْرَامَ، ... جَمِيعَ الأَرْضِ الَّتِي أَنْتَ تَرَى لَكَ أُعْطِيهَا وَلِنَسْلِكَ إِلَى الأَبَدِ. وَأَجْعَلُ نَسْلَكَ كَتُرَابِ الأَرْضِ، ... قُمِ امْشِ فِي الأَرْضِ طُولَهَا وَعَرْضَهَا، لأَنِّي لَكَ أُعْطِيهَا». (تكوين١٣: ١٤-١٧). إنه تعويض جزيل في الحاضر وتجديد الوعد المبارك المتعلق بالمستقبل.