أشار الرب إلى الحتمية الأولى والأساسية وهي ”الولادة من فوق“، قبل أن يطلب من الإنسان شيئًا حتميًا ليعمله. وهذا ما أشرنا إليه بالعدد قبل السابق في بداية الحتميات التي تخص الإنسان. ثم لخصنا الأمور التي ينبغي على المؤمن إظهارها في حياته كمولود من الله، وقسمناها لسبع نقاط، وهي تشمل علاقته بالرب، وعلاقته بالآخرين، وعلاقته بالخدمة، وعلاقته بالكلمة، وسلوكه وحياته الشخصية، وعلاقته بحياة الألم، وأخيرًا حتمية وقوف الجميع أمام كرسي المسيح. وفي العدد السابق تكلمنا عن الحتميات الخاصة بعلاقة المؤمن بالرب والتي لخصناها في حتمية التسبيح، والصلاة والسجود، وتعظيم المسيح بتواضعنا أمامه. وفي هذا العدد سنتأمل بنعمة الرب فيما ينبغي علينا إظهاره للآخرين.
أولاً: المؤمن وعلاقته بالآخرين:
وحتمية رحمة الآخرين كما رُحمنا نحن، وقبول الآخر كما قبلنا الرب، وإظهار المحبة العملية لهم.
١- «أَفَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنَّكَ أَنْتَ أَيْضًا تَرْحَمُ الْعَبْدَ رَفِيقَكَ كَمَا رَحِمْتُكَ أَنَا؟» (متى١٨: ٣٣).
إن كان الإنسان الطبيعي مجرد من الرحمة «بِلاَ فَهْمٍ وَلاَ عَهْدٍ وَلاَ حُنُوٍّ وَلاَ رِضىً وَلاَ رَحْمَةٍ» (رومية١: ٣١). لكن يجب على المسيحي أن يظهرها، وأن يكون قلبه عامرًا بها ولا يغلق أحشاءه لأخ يقع في عوز، لأن المحبة الإلهية لا تستقر إلا في قلوب من يمارسون الرحمة. فإظهار الرحمة للآخرين هي من صور الكمال الذي أشار إليه المسيح لتلاميذه «فَكُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ هُوَ كَامِلٌ» (متى٥: ٤٨). وهذه الصورة تظهر في إبداء الرحمة للغير «فَكُونُوا رُحَمَاءَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمْ أَيْضًا رَحِيمٌ» (لوقا٦: ٣٦). فالرحمة تجعلني أسوة بالسامري الصالح (لوقا١٠: ٣٠) وقريبًا من أي شخص بائس تجمعني به الصدف، وأيضًا رحيمًا بمن يكون قد أساء إليِّ. هذا لأن الله منحني رحمته بل وتعامل معي بغني الرحمة. وهذا هو المقياس الكامل لتعاملنا مع الآخرين.
٢- «فَنَحْنُ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَقْبَلَ أَمْثَالَ هؤُلاَءِ، لِكَيْ نَكُونَ عَامِلِينَ مَعَهُمْ بِالْحَقِّ» (٣يوحنا: ٨).
قبول الآخر من الحتميات التي يعلمنا إياها الرب يسوع المسيح، وهنا أشير لثلاث فئات من الآخرين:
أ. قبول الإنسان بصفة عامة بلا تحيّز لدين أو جنس. وهنا نرى الرب كمثال لنا إذ قيل عنه «هذَا يَقْبَلُ خُطَاةً وَيَأْكُلُ مَعَهُمْ» (لوقا١٥: ٢).
ب. قبول المؤمن الضعيف «وَمَنْ هُوَ ضَعِيفٌ فِي الإِيمَانِ فَاقْبَلُوهُ، لاَ لِمُحَاكَمَةِ الأَفْكَارِ» (رومية١٤: ١). هنا تبرز مسؤولية المؤمن القوي تجاه المؤمن الضعيف، الغير المُدرك تمامًا للحق المسيحي، فلا نتجادل معه كأننا نحاكمه بل نقبله في عواطفنا ورعايتنا بكل محبة وعطف.
ج. الفئة الثالثة والتي يتكلم عنها الرسول يوحنا في رسالته الثالثة هي صورة جميلة لأناس يخدمون الرب وقد خرجوا من أجل خاطر اسمه ولا يطلبون شيئًا لأنفسهم. عكس من كتب عنهم بولس لتيموثاوس وتيطس الطامعين بالربح القبيح (١تيموثاوس٣:٣؛ تيطس١: ٧). لكن يقول يوحنا هنا لا يأخذون شيئًا من الأمم؛ فهم خرجوا من أجل اسم المسيح فقط وهو متكفل بهم. يقول الرسول لغايس اقبلوا هؤلاء. لكن إن عُدنا لرسالة يوحنا الثانية نقرأ عن فريق آخر «إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَأْتِيكُمْ، وَلاَ يَجِيءُ بِهذَا التَّعْلِيمِ (تعليم المسيح)، فَلاَ تَقْبَلُوهُ فِي الْبَيْتِ، وَلاَ تَقُولُوا لَهُ سَلاَمٌ» (٢يوحنا١٠). فالفيصل في قبول ورفض الآخر هنا هو موقفهم من تعليم المسيح. فالمؤمن المحب للرب يمكن أن يتساهل فيما يخصه لكن فيما يخص الرب فلا تساهل على الإطلاق.
٣- «بِهذَا قَدْ عَرَفْنَا الْمَحَبَّةَ: أَنَّ ذَاكَ وَضَعَ نَفْسَهُ لأَجْلِنَا، فَنَحْنُ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَضَعَ نُفُوسَنَا لأَجْلِ الإِخْوَةِ... أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، إِنْ كَانَ اللهُ قَدْ أَحَبَّنَا هكَذَا، يَنْبَغِي لَنَا أَيْضًا أَنْ يُحِبَّ بَعْضُنَا بَعْضًا» (١يوحنا٣: ١٦؛ ٤: ١١).
المحبة هي الرائحة الأولى للطبيعة الجديدة، والنوع الأول من ثمر الروح القدس الساكن فينا. فيجب أن نظهرها تجاه عائلة الله وموضوع محبته.
فينبغي أن نحب وأن نضع نفوسنا لأجل من نحب. هذا ما يكتبه الرسول يوحنا هنا لمن آمن بالمسيح وتبعه. وقبل أن يضعنا أمام هذه الحتمية، يضع المسيح أمامنا كالمقياس الكامل في المحبة التي برهنها بوضع حياته لأجلنا. فكما برهنها عمليا، علينا نحن أن نظهر محبتنا لأخوتنا بطريقة عملية بأن يكون لدينا الاستعداد لأن نضع نفوسنا لأجل الأخوة. فمحبة الله المنسكبة في قلوبنا بالروح القدس المُعطى لنا قادرة على هذا النوع من التضحية والعطاء.
ثانيًا: حتمية الشهادة والخدمة
«وَفِي اللَّيْلَةِ التَّالِيَةِ وَقَفَ بِهِ الرَّبُّ وَقَالَ: ”ثِقْ يَا بُولُسُ! لأَنَّكَ كَمَا شَهِدْتَ بِمَا لِي فِي أُورُشَلِيمَ، هكَذَا يَنْبَغِي أَنْ تَشْهَدَ فِي رُومِيَةَ أَيْضًا“» (أعمال٢٣: ١١).
يقرر الكتاب المقدس أن كل من قبل الرب يسوع ورآه بالإيمان وسمع صوته في المكتوب ينبغي أن يشهد عنه وله، سواء كانت الشهادة بالكلام أو بالحياة. عن هذا قال المعمدان «وَمَا رَآهُ وَسَمِعَهُ بِهِ يَشْهَدُ» (يوحنا٣: ٣٢). وقال بطرس ويوحنا «لأَنَّنَا نَحْنُ لاَ يُمْكِنُنَا أَنْ لاَ نَتَكَلَّمَ بِمَا رَأَيْنَا وَسَمِعْنَا» (أعمال٤: ٢٠). فالشهادة هي رسالة المؤمن كارزًا بالمسيح ولا يتكلم بظنون وآراء واختبارات بل بما يعرفه عن الرب الذي أرسله كارزًا وشاهدًا. كما أن كتمان الشهادة أو الامتناع عن تأديتها يعتبر ذنبًا كبيرًا «وَإِذَا أَخْطَأَ أَحَدٌ وَسَمِعَ صَوْتَ حَلْفٍ وَهُوَ شَاهِدٌ يُبْصِرُ أَوْ يَعْرِفُ، فَإِنْ لَمْ يُخْبِرْ بِهِ حَمَلَ ذَنْبَهُ» (لاويين٥: ١).
أخي القارئ: كل مؤمن بالمسيح صار من شركاء الطبيعة الإلهية التي تظهر في التعامل مع الغير من خلال إظهار الرحمة لهم وقبولهم ومحبتهم. فهل أنت تتعامل مع الغير هكذا؟ وعلى المؤمن أن يعي أن رسالته على الأرض هي الشهادة للرب. فهل تقوم بذلك؟