بعد أن أعدّ المسيح تلاميذه نفسيًا للذهاب إلى الإرسالية، وشرح لهم ما يفعلوه وما لا يفعلوه فيها، ووضع أهم المخاطر المتوقعة التي يمكن أن تواجههم، ها هو يضع بعض المحفزات لتلاميذه، حتى يواجهون تحديات الإرسالية بصدر رحب، وهو أمر هام جدًا لأي قائد ناجح، لئلا تنخفض روح أتباعه المعنوية، أو يظنوا أن كفة التحذيرات أثقل من كفة المشجعات.
لكم رجاء (خلاص لله)
فنقرأ ما قاله المسيح لتلاميذه: «وَتَكُونُونَ مُبْغَضِينَ مِنَ الْجَمِيعِ مِنْ أَجْلِ اسْمِي وَلكِنِ الَّذِي يَصْبِرُ إِلَى الْمُنْتَهَى فَهذَا يَخْلُصُ» (متى١٠: ٢٢)، فالمسيح يطمئن تلاميذه أن الصورة ليست قاتمة؛ صحيح أنهم سيكونون مُبغَضين من الناس “الذئاب”، وقد يُحاكمون أمام الولاة والملوك، وقد ينفصلون قسرًا عن عائلاتهم وأقاربهم، لكن الخبر الطيب أنه هناك خلاص من الله أُعد لهم.
والخلاص هنا ليس من الخطية كما يظن البعض، لأن خلاص الله مجاني فقط «لأَنَّكُمْ بِالنِّعْمَةِ مُخَلَّصُونَ، بِالإِيمَانِ، وَذلِكَ لَيْسَ مِنْكُمْ. هُوَ عَطِيَّةُ اللهِ» (أفسس٢: ٨)، ولكنه خلاص من الألم والضيق للمضطهدين، وهو يأتي فقط بواسطة الصبر.
لكم قدوة (ابن لله)
ثم يقول المسيح لتلاميذه: «لَيْسَ التِّلْمِيذُ أَفْضَلَ مِنَ الْمُعَلِّمِ، وَلاَ الْعَبْدُ أَفْضَلَ مِنْ سَيِّدِهِ. يَكْفِي التِّلْمِيذَ أَنْ يَكُونَ كَمُعَلِّمِهِ، وَالْعَبْدَ كَسَيِّدِهِ. إِنْ كَانُوا قَدْ لَقَّبُوا رَبَّ الْبَيْتِ بَعْلَزَبُولَ، فَكَمْ بِالْحَرِيِّ أَهْلَ بَيْتِهِ!» (متى١٠: ٢٤، ٢٥)، وهذا أكثر أمر يطمئنهم، فأي اضطهادات يمكن أن يتعرض لها أتباع المسيح، هي جزء صغير كمًّا وكيفًا مما تعرض له هو كإنسان.
فبالنسبة للناس؛ فقد تعرض المسيح للاستهزاء، فقالوا إنه يهذي (يوحنا١٠: ٢٠)، وللشتيمة، فقالوا عنه إنه سامري وبه شيطان (يوحنا٧: ٢٠)، وللطرد، كما حدث في كورة الجدريين (مرقس٥: ١٧)، وللخيانة، فبعد أن هتف له أهل أورشليم «أوصنا لابن داود»، قالوا بعدها بأيام: «دمه علينا وعلى أولادنا» (متى٢١: ٩؛ ٢٧: ٢٥)، وغيرها الكثير.
أما الأقارب، فإخوة المسيح لم يكونوا يؤمنوا به، وطلبوا منه مرة أن ينزل لأورشليم في العيد وهو مطلوب للقتل فيها (يوحنا٧: ١-٥)، وأقربائه قالوا عنه إنه مختل (مرقس٣: ٢١)، وأهل مدينته حاولوا اغتياله (لوقا٤: ٢٩).
وبالنسبة للسُلطة فحدِّث ولا حرج؛ فقد عادته السلطة الدينية، واتهموه بأنه خاطي (يوحنا ٩: ٢٤)، وأنه يُخرج الشياطين ببعلزبول؛ إله الذباب النجس (متى١٢: ٢٤)، وخططوا لموته مرات عديدة (متى١٢: ١٤)، وفي النهاية قدموه لمحاكمة دينية أمام المجمع ورؤساء الكهنة (لوقا٢٢: ٦٦)، ثم قدموه لمحاكمة مدنية أمام بيلاطس الأممي (لوقا٢٣: ١).
لكم مخبر (عِلم الله)
أما من جهة مؤامرات الأشرار المتوقَعة، فيقول المسيح لتلاميذه: «فَلاَ تَخَافُوهُمْ. لأَنْ لَيْسَ مَكْتُومٌ لَنْ يُسْتَعْلَنَ، وَلاَ خَفِيٌّ لَنْ يُعْرَفَ» (متى١٠: ٢٦). فمهما كانت مكائد المضطهِدين، ومهما حاولوا إخفائها، إلا أنها تظل مكشوفة تمامًا أمام المسيح، وأمام أتباعه، وهو ما قاله بولس بعد حين: «لِئَلاَّ يَطْمَعَ فِينَا الشَّيْطَانُ، لأَنَّنَا لاَ نَجْهَلُ أَفْكَارَهُ» (٢كورنثوس٢: ١١).
وهذا ما يطمئن الجندي المسيحي في حربه الروحية مع العالم غير المنظور، حين يعلم بأن هناك من يخبره بكل ما يحاك له في الطرف الآخر، وهذا المُخبر ليس إلا الله قائده وسنيده.
لكم ضمان (سلطان لله)
ثم يقول المسيح لتلاميذه «وَلاَ تَخَافُوا مِنَ الَّذِينَ يَقْتُلُونَ الْجَسَدَ وَلكِنَّ النَّفْسَ لاَ يَقْدِرُونَ أَنْ يَقْتُلُوهَا، بَلْ خَافُوا بِالْحَرِيِّ مِنَ الَّذِي يَقْدِرُ أَنْ يُهْلِكَ النَّفْسَ وَالْجَسَدَ كِلَيْهِمَا فِي جَهَنَّمَ» (متى١٠: ٢٨). فالمسيح يأمر تلاميذه بالخوف، وبعدم الخوف في ذات الوقت!!
فمن جهة؛ عليهم ألا يخافوا من أي شر يمكن أن يفعله الناس بهم، لأنه محدود في كل الأحوال، حتى لو وصل الأمر للموت الجسدي، لأن الموت ينتهي سلطانه بانتهاء الحياة هنا، وفي نفس الوقت بما أن الله هو الوحيد الذي له سلطان على النفس والجسد كليهما، لذا عليهم بمخافة الله التي ستعطيهم قوة وهيبة غير عادية أمام أي خطر؛ فمن يخاف الله لا يخاف شيء.
ثم يقدم المسيح مثالاً من الطبيعة لزيادة الإيضاح، فيقول: «أَلَيْسَ عُصْفُورَانِ يُبَاعَانِ بِفَلْسٍ؟ وَوَاحِدٌ مِنْهُمَا لاَ يَسْقُطُ عَلَى الأَرْضِ بِدُونِ أَبِيكُمْ. وَأَمَّا أَنْتُمْ فَحَتَّى شُعُورُ رُؤُوسِكُمْ جَمِيعُهَا مُحْصَاةٌ. فَلاَ تَخَافُوا! أَنْتُمْ أَفْضَلُ مِنْ عَصَافِيرَ كَثِيرَةٍ!» (متى١٠: ٣٠-٣١).
فرغم أن قيمة العصافير لا تُذكر في سوق الناس، لكن الله لا يُضحي بها أبدًا، ويلزم إذنًا خاصًا منه قبل أن يسقط الأرض أحدها، حتى أن أحدهم قال: إن الله يحضر بنفسه جنازة كل عصفور، فما بالك بالإنسان الأغلى بما لا يقاس من العصافير، فعندما يرسل المسيح تلاميذه، فإنه لا يقذف بهم إلى التهلكة، ولكنه يضمن سلامتهم الكاملة، ولا يعتبرهم مجرد عدد فائض أو رقم زائد.
لكم مكافأة (مجد الله)
وبناءً على كل التطمينات المنطقية السابقة، وهي كافية لتثبيت إيمان التلاميذ، ونزع أي خوف أو بادرة شك من قلوبهم، واصل المسيح حديثه لتلاميذه قائلاً: «فَكُلُّ مَنْ يَعْتَرِفُ بِي قُدَّامَ النَّاسِ أَعْتَرِفُ أَنَا أَيْضًا بِهِ قُدَّامَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، وَلكِنْ مَنْ يُنْكِرُني قُدَّامَ النَّاسِ أُنْكِرُهُ أَنَا أَيْضًا قُدَّامَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ» (متى١٠: ٣٢، ٣٣).
فمكافأة من يتممون إرسالية المسيح، ويثبتون ولائهم له رغم الضيق والاضطهاد، ليس تكريمًا من كنيسة محلية، ولا احتفاءً من مؤتمر دولي، ولا حتى جائزةً من الرسول بولس أو بطرس، ولكن المكافأة هي مجد من المسيح شخصيًا، وأمام الله الآب، فيالها من مكافأة تهون أمامها أي معاناة!!