بدأ الأمريكي “تيد وليامز” وعمره ١٤ سنة حياته المهنية كمذيع ميداني، ثم كمذيع محلي في الراديو. وبالرغم من المستقبل المشرق أمامه الذي بدأه في سن صغيرة، إلا إنه للأسف أغرق نفسه في مستنقع الخطية والمخدرات، فتم طرده من عمله ودخل السجن أكثر من مرة بتهمة حيازة المخدرات والسرقة. وزاد الأمور تعقيدًا وألمًا برفض زوجته وأولاده له وهروبهم بعيدًا عنه، كما أن والدته تبرأت منه، فلم يجد أمامه سوى التشرد في الشوارع والتسول على أرصفتها لمدة تقارب ٢٠ عامًا! وبالرغم من قسوة وصعوبة تلك الفترة عليه وانهيار كل أحلامه، إلا إنه كان مؤمنًا بتميز صوته، لذا انتفض من جديد وأخذ كرتونة ورقية وكتب عليها “أنا أمتلك موهبة إلهية في صوتي، جربوني أريد أن أحصل على فرصة من جديد”، على أمل أن يلاحظه أحد المارة. ظل يفعل ذلك بصورة يومية دون ملل حتى جاء اليوم الذي ينتظره، إذ إستوقفت لافتته أحد الصحفيين، فنزل من سيارته ليلتقي بالمتشرد الموهوب بحثًا عن سبق صحفي. فطلب منه أن يستعرض قدراته الصوتية، وبالفعل بدأ “تيد وليمز” بالحديث، فاندهش الصحفي من أداءه المتحمس والمتقن مع لغتة السليمة في الإلقاء. لذا قام بتصوير مقطع فيديو له ونشره على الإنترنت، وكانت المفاجأة في انتشار الفيديو بشكل “مذهل”، مما جعل “تيد” حديث كثير من قنوات التواصل الاجتماعي ووسائل الأعلام لموهبته وقصته المثيرة. مرت الأيام سريعًا وبدأت العروض تنهال عليه من كبرى الشركات العالمية للقيام بالأداء الصوتي لمنتجاتهم، وأصبح مع مرور الأيام واحدًا من أشهر الاصوات الإذاعية في أمريكا. وتدريجيًا بدأ يستعيد روابطه الأسرية مع زوجته، أولاده وأمه. وبعد استرداده لموهبته المدفونة واسترجاع قيمة حياته، أصدر “وليامز” كتابًا أسماه “الصوت الذهبي” موضِّحًا فيه معاناته والتي انتهت بالشهرة والمال. حقق تيد وليامز شهرة واسعة استند عليها للتقدم بأوراق ترشحه لإنتخابات الرئاسة الأمريكية لعام ٢٠١٦، لكنه تراجع مفضلاً أن يستثمر موهبته والمال الذي يجنيه منها لمساعدة الموهوبين والمشردين في الشوارع.
تعلمت من هذه القصة بعض الدروس الهامة لي، دعني أشاركك بـ٣ منها:
١) حصاد الخطية
يؤكِّد لنا الكتاب المقدس بطوله وعرضه مبدأً هامًا، ألا وهو أن «الَّذِي يَزْرَعُهُ الإِنْسَانُ إِيَّاهُ يَحْصُدُ أَيْضًا» (غلاطية٦: ٧). رأينا كيف زرع “تيد” للشر والخطية، فكان حصاده مريرًا بالإفلاس والسجن، لذا دعونا يا أحبائي نتحذر ونخطط جيدًا لما نزرعه، فالحصاد دائمًا يأتي متماشيًا مع نوع الزرع لأنه «مِنْ ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ. هَلْ يَجْتَنُونَ مِنَ الشَّوْكِ عِنَبًا، أَوْ مِنَ الْحَسَكِ تِينًا؟» (متى٧: ١٦). هل تذكر كيف زرع يعقوب بالمكر والدهاء مع أبيه وأخيه؟ فكان حصاده من نفس النوع من خاله لابان على مدار ٢٠ عامًا. على النقيض تمامًا ابنه يوسف الذي زرع قداسة وأمانة لإلهه أمام الجميع في كل مكان وزمان فحصد إكرامًا وتقدير الجميع له لذا كان «كُلَّ مَا يَصْنَعُ كَانَ الرَّبُّ يُنْجِحُهُ بِيَدِهِ» (تكوين٣٩: ٣).
٢) الوزنات الزمنية والمواهب الروحية
هناك أنواع مواهب ووزنات مختلفة، وهي مسؤولية وعلينا تنميتها وإضرامها وإلا ستنطفئ. تقول الدراسات، إنه من النادر جدًا أن يولد إنسان وليس لديه موهبة ما، فهل تعرف ما هي موهبتك؟ هل تبذل كل الجهد لازدهارها ونموها؟ فعلى الجانب الإنساني قد تكون الوزنة الزمنية (موسيقي، رياضة، فن، أعمال يدوية، ...) سبب في تغيير مسار حياة الإنسان تمامًا مثلما كان الحال مع “تيد وليامز”. أما على جانب المواهب الروحية فقد أشار إليها الروح القدس في مواضع عدة في الكتاب المقدس مثل: رومية١٢: ٦-٨ و١كورنثوس١٢، ويمكن للقارئ العزيز الرجوع إليها والتأمل فيها مصليًا للرب أن يلمع له موهبته وكيفية تنميتها واستخدامها لمجده. لكن اسمحوا لي يا أحبائي أن أوضح ببعض النقاط الهامة عن المواهب الروحية:
١. تأتي بقبول المسيح مخلص شخصي للحياة «فَقَالَ لَهُمْ بُطْرُسُ: تُوبُوا وَلْيَعْتَمِدْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ عَلَى اسْمِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ لِغُفْرَانِ الْخَطَايَا، فَتَقْبَلُوا عَطِيَّةَ الرُّوحِ الْقُدُس» (أعمال٢: ٣٨). فبعد الإيمان بصليب المسيح وعمله الكفاري على عود الصليب يسكن الروح القدس في الإنسان، وعلى حسب حالته الروحية وإعطائه مجالاً للروح القدس يظهر عمله ومواهبه فيه.
٢. المواهب الروحية هي لكل مؤمن وعضو في جسد المسيح «لِيَكُنْ كُلُّ وَاحِدٍ بِحَسَبِ مَا أَخَذَ مَوْهِبَةً، يَخْدِمُ بِهَا بَعْضُكُمْ بَعْضًا» (١بطرس٤: ١٠). وبالتالي تبرز قيمة كل واحد مننا لإتمام عمل جسد المسيح بإتقان وانسجام دون أي تأثير أو تعطيل لعمل باقي الأعضاء بل الكل يعمل سويًا في تناغم وانسجام من دون أي تكبر أو احتقار أو تذمر.
٣. الله هو الذي يوزع المواهب على أبنائه بحسب سلطانه وحكمته «وَلكِنَّ هذِهِ كُلَّهَا يَعْمَلُهَا الرُّوحُ الْوَاحِدُ بِعَيْنِهِ، قَاسِمًا لِكُلِّ وَاحِدٍ بِمُفْرَدِهِ، كَمَا يَشَاءُ» (١كورنثوس١٢: ١١). وهنا تأتي أهمية إدراك الموهبة الروحية لدينا حتى لا نركض باطلاً معطلين الآخرين من حولنا، وقد نسبب عثرات للكثيرين إذ كنا نستعمل مواهبنا بطريقة خاطئة.
٣) تشجيع النفوس المنحنية
أثناء قراءتي لتلك القصة أعجبت جدًا بشخصية الصحفي الذي استوقف سيارته تعاطفًا مع ذلك المشرّد؛ فأخرج واحدًا من أشهر المؤديين الصوتيين والذي أصبح نافع جدًا لمجتمعه وأسرته وكثيرين ممن هم حوله. اندهشت أكثر أن أغلب المواقع الإلكترونية والمصادر التي تناولت قصة حياة “تيد وليامز” لم تذكر إطلاقا اسم ذلك الصحفي!!
عزيزي، عزيزتي... أحيانًا قد يسمح الله لنا – في حكمته – أن نكون مثل ذلك الصحفي، يتجاهلنا الآخرين بالرغم من قيامنا بأمور مجيدة وقيِّمة سواء روحية أو زمنية، لكن لا تنزعج يا عزيزي سيأتي يومًا القريب وفيه ستُمتحن أعمالنا كما بنار إذ نقف أمام كرسي المسيح، وعندها سننال الإكرام والمديح اللائق بنا ومن فمه الكريم. فهناك نماذج مختلفة في الكتاب لم يُذكر اسمها لكنها حتمًا ستنال الأكرام من رب المجد أمام الجميع، هل تعرف من هو الغلام الذي أنقذ الآلآف من الجوع بخمس خبزات وسمكتين إذ قدّمهم بكل الحب للرب يسوع (متى١٥)؟ ما هو اسم المرأة السامرية والتي ربحت مدينته بالكامل للإيمان بالرب يسوع (يوحنا٤)؟ من هو صاحب المزود الذي تشرف باستضافة ومعاينة أهم حدث قسم تاريخ البشرية بميلاد الرب يسوع في مزوده؟! من يكون صاحب الجحش الذي دخل المسيح عليه إلى أورشليم قبل ساعات من صلبه؟!