كنا نعد الأيام، يومًا تلو الآخر، وننتظر مجيئه بلهفة، نتخيل ملامحه كيف ستكون. حتى أتى إلى عالمنا وصار كائنًا نتلامس معه ونراه بعيوننا بعد أن كنا نتخيله. لعلك خمنت عن ماذا أكتب عزيزي القارئ! أتحدث عن ابني العزيز دانيآل، العطية الغالية من الله لنا. يعرف الذين لديهم أبناء كم تكون الشهور الأولى صعبة جدًا على الأب والأم، ولا سيما إن كان هذا مولودهم الأول؛ فالطفل في الشهور الأولى يعاني بشدة لأنه خرج من عالم تعود عليه إلى عالم جديد بكل تفاصيله، فهو لا يعرف فيه شيء إلا والدته فقط. ولن أطيل الحديث عن ابني، لكن أود أنا أشاركك بفكرتين رئيستين لمس الله بهما قلبي.
محدودية التعبير ومعرفة القدير
قاربت الساعة على الثانية عشرة منتصف الليل، وكنا نتهيأ، بعد نهاية يوم شاق، للنوم؛ وإذا بدانيآل، بدون مقدمات، يبكي بشدة ويتعالى صراخه. خمَّنا أنه ربما يكون جوعان أو بردان أو يحتاج إلى تغيير ملابسه، وقمنا بفعل كل شيء يعالج ما قد يكون سببًا في بكائه. ومع ذلك فالبكاء يتصاعد لدرجة الصراخ أحيانًا، ولا ينقطع. الساعة وصلت الثالثة صباحًا والحال كما هو. لن أسرد تفاصيل كثيرة فعلناها، ولكني أخذته بين ذراعيَّ وتمشيت به في أرجاء الشقة، وكنت أطالبه بالهدوء، ورويدًا رويدًا ابتدأ يكف عن الصراخ، ويسكت. ما كان يؤلمني وقتها إني لا أعلم سبب بكائه، وأنه هو غير قادر على التعبير بالكلام عما يؤلمه. جلست به في غرفة المعيشة حتى الرابعة صباحًا.
وبعد أن بدأ يستغرق في نومه، دار في ذهني فكرة: أني عاجز عن فهم ابني وهو غير قادر على الكلام؛ ولكن عندما أذهب لله وأنا متعب غير قادر على الكلام هو يفهمني. رفعت قلبي لله حمدًا وشكرًا؛ لأنه عندما أكون حزينًا ونفسي مكتئبة، وقد هربت مني الكلمات ولا أجد قوة على الكلام؛ فهو يفهمني، يشعر بي، يعرف ما بداخلي، يسمع أنَّاتي الصامتة، وتأوهاتي التي تخرج من أعماقي. مكتوب عنه: «تَأَوُّهَ الْوُدَعَاءِ قَدْ سَمِعْتَ يَا رَبُّ... تُمِيلُ أُذُنَكَ» (مزمور١٠: ١٧). فالرب يسمع التأوه والأنين. سمع لموسى، عبده الأمين، عندما كان فرعون ورائه والبحر أمامه، وهو والشعب بين حجري الرحى، فَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: «مَا لَكَ تَصْرُخُ إِلَيَّ؟» (خروج١٤: ١٥)، مع أن الكتاب المقدس لم يذكر في تلك الحادثة أن موسى صرخ، لكن الله يرى القلوب المتألمة والمنهكة التي لا توجد لديها قوة على التعبير.
إن أثقلتك الهموم والتجارب، ولم تعد قادرًا حتى على الصلاة المنطوقة؛ ثق أن الله يرى ويسمع ويفهم. ادخل محضره واسكب تأوهك وتعبك أمامه، وهو يشعر بك ويرسل لك معونة من عنده.
الاحتياجات وكفاية إله السماوات
بعد عودتي من السفر وقد قاربت الساعة على منتصف الليل، وجدت أن درجة حرارة دانيآل مرتفعة، لم أعرف ماذا أفعل وقتها. غير أني كلمت صديق لي وهو صيدلي، فأرسل لي أسماء بعض الأدوية ليأخذها دانيآل لتنخفض حرارته. وبالفعل، نزلت من البيت، في الساعة الواحدة صباحًا، وذهبت للصيدلية لأشتري الأدوية التي يحتاجها ابني في ذلك الوقت المتأخر. وبعد عودتي للمنزل أعطينا دانيآل العلاج، وجلست - بعد إرهاق السفر الذي وصل قرابة سبع ساعات - لأفكر إن كنت أنا أهتم بابني هكذا وأتعب لأجله وأعمل على تسديد احتياجاته وأكون بجواره في تعبه؛ فكم وكم أبي السماوي يهتم بي، وكم أنا غالٍ عنده.
ولا أجد أفضل من كلمات الرب يسوع في هذا السياق لتوصل ما بداخلي، التي تعبر عن محبة الآب لنا وكيف يهتم بنا، ويعرف احتياجنا «لذلِكَ أَقُولُ لَكُمْ: لاَ تَهْتَمُّوا لِحَيَاتِكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَبِمَا تَشْرَبُونَ، وَلاَ لأَجْسَادِكُمْ بِمَا تَلْبَسُونَ. أَلَيْسَتِ الْحَيَاةُ أَفْضَلَ مِنَ الطَّعَامِ، وَالْجَسَدُ أَفْضَلَ مِنَ اللِّبَاسِ؟
اُنْظُرُوا إِلَى طُيُورِ السَّمَاءِ: إِنَّهَا لاَ تَزْرَعُ وَلاَ تَحْصُدُ وَلاَ تَجْمَعُ إِلَى مَخَازِنَ، وَأَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ يَقُوتُهَا. أَلَسْتُمْ أَنْتُمْ بِالْحَرِيِّ أَفْضَلَ مِنْهَا؟ وَمَنْ مِنْكُمْ إِذَا اهْتَمَّ يَقْدِرُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى قَامَتِهِ ذِرَاعًا وَاحِدَةً؟ وَلِمَاذَا تَهْتَمُّونَ بِاللِّبَاسِ؟ تَأَمَّلُوا زَنَابِقَ الْحَقْلِ كَيْفَ تَنْمُو! لاَ تَتْعَبُ وَلاَ تَغْزِلُ. وَلكِنْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ وَلاَ سُلَيْمَانُ فِي كُلِّ مَجْدِهِ كَانَ يَلْبَسُ كَوَاحِدَةٍ مِنْهَا. فَإِنْ كَانَ عُشْبُ الْحَقْلِ الَّذِي يُوجَدُ الْيَوْمَ وَيُطْرَحُ غَدًا فِي التَّنُّورِ، يُلْبِسُهُ اللهُ هكَذَا، أَفَلَيْسَ بِالْحَرِيِّ جِدًّا يُلْبِسُكُمْ أَنْتُمْ يَا قَلِيلِي الإِيمَانِ؟
فَلاَ تَهْتَمُّوا قَائِلِينَ: مَاذَا نَأْكُلُ؟ أَوْ مَاذَا نَشْرَبُ؟ أَوْ مَاذَا نَلْبَسُ؟ فَإِنَّ هذِهِ كُلَّهَا تَطْلُبُهَا الأُمَمُ. لأَنَّ أَبَاكُمُ السَّمَاوِيَّ يَعْلَمُ أَنَّكُمْ تَحْتَاجُونَ إِلَى هذِهِ كُلِّهَا. لكِنِ اطْلُبُوا أَوَّلاً مَلَكُوتَ اللهِ وَبِرَّهُ، وَهذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ لَكُمْ» (متى٦: ٢٥–٣٣).
الله يعلم ما تحتاج إليه، احكِ له ببساطة كما يتكلم الابن إلى أبيه بكل حب وثق أنه سيتكفل بكل ما تحتاج إليه لأنه أبوك الأمين الصالح.