رغم اختلاف البشر على اعترافهم بحقيقة شخصية المسيح؛ فالبعض يعتبرونه مجرد نبي مميَّز، وآخرون يظنونه قائد ديني مُبجَّل، ومحظوظون يؤمنون به ربًا وسيدًا، إلا أن جميع البشر بلا استثناء يثقون بكفاءة المسيح كمعلم، فمن ينسى «أَعْطُوا إِذًا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا ِللهِ ِللهِ»، أو «أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ»، أو «طُوبَى لِصَانِعِي السَّلاَمِ»، أو غيرها من التعاليم الخالدة في وجدان البشر؟
والحقيقة أن تميَّز المسيح في تعاليمه، لم يكن فقط في نوع وشمول المادة التي يقدمها، لكنه أيضًا تميَّز بطريقة توصيله لتعاليمه، بشكل يصل للكبير والصغير، للجاهل والمثقف، للغني والفقير، وهذا جعله بسيطًا وعميقًا في ذات الوقت.
في هذا الباب، سنُلقي نظرة على المسيح كمُعلِّم، وسنتساءل: ما هي الشهادات التي تثبت جدارته كمُعلِّم؟ وما هو مصدر المُقرَّر التعليمي له؟ وما هي الأماكن التي كان يُعلِّم فيها؟ وما هي الأساليب ووسائل الإيضاح التي استخدمها في تعاليمه؟
١. شهادات المعلم Teacher Certificates
أول أمر يبحث عنه أي تلميذ في مُعلِّمه، هو الشهادات التي تحصَّل عليها هذا المُعلِّم، والجامعة التي منحته إياها، والتي كلما زادت عراقتها وسمعتها الدولية، كلما زادت ثقة هذا التلميذ وغيره في كفاءة هذا المُعلِّم.
والحقيقة أن الشهادات التي تحصَّل عليها المسيح، لم تأتِ من جامعة معينة، ولكن جاءت من مستويات عديدة، وفي أماكن مختلفة، والأعجب أنها جاءت من بعض الفئات المتناحرة التي من المستحيل أن تُجمع على كفاءة وصِدق مُعلم ما.
أولاً: شهادة المعلمين المنافسين
هذه الشهادة الأولى عن المسيح المُعلِّم، نالها من مُعلِّم مرموق وقدير كان معاصرًا له، له باع في الناموس وضليع في الشريعة، وهو أيضًا عضو مجمع السنهدريم اليهودي، فنقرأ «كَانَ إِنْسَانٌ مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ اسْمُهُ نِيقُودِيمُوسُ، رَئِيسٌ لِلْيَهُودِ. هذَا جَاءَ إِلَى يَسُوعَ لَيْلاً وَقَالَ لَهُ: يَا مُعَلِّمُ، نَعْلَمُ أَنَّكَ قَدْ أَتَيْتَ مِنَ اللهِ مُعَلِّمًا...» (يوحنا٣: ١، ٢)، فرغم مكانة نيقوديموس عمريًا كشيخ، ومعنويًا كمُعلم مبجَّل لليهود، إلا أنه لم يستحِ أن يأتي ليشهد بكفاءة مُعلِّم شاب في بداية الثلاثينات من عمره، بل ويُجزم أنه “أتى من الله مُعلِّمًا”.
ومن المعروف، أن أصدق شهادة هي من تأتي ممن يمتهن نفس المهنة وفي ذات المجال؛ فإن ذهبت لطبيب متخصص في أمراض القلب، وأوصى لك بطبيب قلب آخر أكفأ منه، ستذهب إلى الأخير باطمئنان، فليس من السهل أن يشهد واحد بكفاءة آخر في ذات “الكار” كما يقولون، لأنه قد يخاف من أن يكون منافسًا له، أو على الأقل قد يسحب سجادة التميز من تحته.
والحقيقة أن شهادة نيقوديموس المُعلِّم في حق المسيح المُعلِّم حملت فطنة وإيمان كبيرين، لأنه ربط بين تعليم المسيح وأعماله، فقال نيقوديموس للمسيح: «نَعْلَمُ أَنَّكَ قَدْ أَتَيْتَ مِنَ اللهِ مُعَلِّمًا، لأَنْ لَيْسَ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَعْمَلَ هذِهِ الآيَاتِ الَّتِي أَنْتَ تَعْمَلُ إِنْ لَمْ يَكُنِ اللهُ مَعَهُ» (يوحنا٣: ٢). ولهذا لما أتى نيقوديموس للمسيح، لم يطلب آية أو معجزة، ولكن طلب تعليمًا جديدًا يحتاجه بشدة رغم أنه لم يعرفه بعد.
وما فعله نيقوديموس خاب عنه اليهود أجمعين، فرغم أن المسيح قال لهم صراحةً: «صَدِّقُونِي أَنِّي فِي الآبِ وَالآبَ فِيَّ، وَإِلاَّ فَصَدِّقُونِي لِسَبَبِ الأَعْمَالِ نَفْسِهَا» (يوحنا١٤: ١١)، لكن اليهود لم يفطنوا للرابط بين تعليم المسيح وأعماله كما فعل نيقوديموس، وظنوا أن المسيح أتى لتقديم Show من المعجزات التي تُبهر عيونهم، وغفلوا عن تعليم الحياة الأبدية الذي يغيِّر قلوبهم ويبدِّل مصائرهم.
وقد نال نقيوديموس ما أراده، حين كلَّمه المسيح بالحديث عن تعليم الولادة الروحية من فوق (يوحنا٣: ٣)، ثم شرَّفه المسيح بأشهر آية في الكتاب المقدس «لأَنَّهُ هكَذَا أَحَبَّ اللهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ» (يوحنا٣: ١٦).
ثانيًا: شهادة الجموع المستمعين
ولم يتوقف الأمر على شهادة نيقوديموس عن المسيح، لكن كانت هناك شهادة جماعية ممن حضروا تعاليمه، وجاءت في مواقف متعددة وفي أماكن مختلفة أيضًا.
فمثلاً نقرأ في إنجيل متى، أنه بعدما سمع الناس تعاليم المسيح في الموعظة على الجبل «بُهِتَتِ الْجُمُوعُ مِن ْتَعْلِيمِهِ لأَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُهُمْ كَمَنْ لَهُ سُلْطَانٌ وَلَيْسَ كَالْكَتَبَةِ» (متى٧: ٢٨، ٢٩). والسلطان هنا بمعنيين؛ الأول هو حسم المسيح في كثير من الأمور الخلافية والعملية التي يحتار فيها الناس ولم يعالجها الناموس قط، مثل الخصام والانتقام والطلاق وعولان الهم وغيرها، وبدلاً من أن يجدوا المعلم الشاب يقول: هذا رأيي، أو إني أرى...، وجدوه يكرر هذا التعبير السلطاني «سمعتم أنه قيل... وأما أنا فأقول لكم» (متى٥: ٢١، ٢٧، ٣٣، ٣٨، ٤٣)، وهذا ما لم يجرؤ أن يفعله مُعلِّم يهودي قبله ولا بعده.
أما المعنى الثاني للسلطان – بحسب فهمي - أن المسيح كان يتكلم عن تعاليم سامية هو عاشها من قبل، ولهذا أخذت مصداقية كبيرة من حياته أولاً، وهو ما لم يتوفر في الكتبة والفريسين الذين يُعلِّمون بلا أي داعم من حياتهم لكلامهم، وهو ما قاله المسيح فيما بعد عنهم: «فَكُلُّ مَا قَالُوا لَكُمْ أَنْ تَحْفَظُوهُ فَاحْفَظُوهُ وَافْعَلُوهُ، وَلكِنْ حَسَبَ أَعْمَالِهِمْ لاَ تَعْمَلُوا، لأَنَّهُمْ يَقُولُونَ وَلاَ يَفْعَلُون» (متى٢٣: ٣).
ما أكثر المعلمين الذين مروا على البشرية... لكن ما أقل من عاشوا تعاليمهم منهم... فهناك من علَّم بالأمل ومات منتحرًا... ومن علَّم بالأخلاق وضُبِط متعديًا... ومن كتب عن الحرية وعاش مستعبَدًا... أما أنت أيها المسيح... فقد عشت كل تعاليمك قبل أن تعلمها... وهذا أضاف سلطانًا ومصداقية لها ولك أنت... وفرضت نفسك كأصدق وأمهر مُعلِّم سار على تلك الكرة المستديرة.