شهادات المعلم Teacher Certificates (٢)
بعد أن تعرفنا عن شهادات معلمنا الأعظم؛ سواء من المُعلمين المنافسين، أو من الجموع المستمعين، ها نحن نُكمل المزيد من الشهادات التي رغم اختلاف مصادرها، إلا أنها تشهد بكفاءة هذا المُعلم الذي لم تشهد له الأرض مثيلاً.
٣-شهادة الأعداء المتربصين
يقولون: إن أفضل شهادة عنك هي ما تأتي من عدوك، وهذا ما حدث مع المسيح مرارًا وتكرارًا، فمثلاً نقرأ في إحدى المرات «ثُمَّ أَرْسَلُوا إِلَيْهِ قَوْمًا مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ وَالْهِيرُودُسِيِّينَ لِكَيْ يَصْطَادُوهُ بِكِلْمَةٍ. فَلَمَّا جَاءُوا قَالُوا لَهُ: يَا مُعَلِّمُ، نَعْلَمُ أَنَّكَ صَادِقٌ وَلاَ تُبَالِي بِأَحَدٍ، لأَنَّكَ لاَ تَنْظُرُ إِلَى وُجُوهِ النَّاسِ، بَلْ بِالْحَقِّ تُعَلِّمُ طَرِيقَ اللهِ. أَيَجُوزُ أَنْ تُعْطَى جِزْيَةٌ لِقَيْصَرَ أَمْ لاَ؟ نُعْطِي أَمْ لاَ نُعْطِي؟» (مرقس١٢: ١٣، ١٤).
ففي هذا الموقف تحالف الأضداد؛ الفريسيين (المتدينين) والهيروديسيين (السياسيين)، على الإيقاع بالمسيح الذي يكشفهم ويهدد مصالحهم. فوضعوه أمام تحدٍّ صعب طالما أسقط كثيرين؛ فإن جاوب المسيح “بنعم تُعطى الجزية لقيصر”، يُهيِّج الفريسيون الشعب عليه باعتباره مُناصرًا و“مُطبِّل” للنظام الروماني، وإن أجاب “بلا”، وجد الهيروديسيون حجتهم القانونية ضد المسيح، لاتهامه بالثورة على قيصر والدعوة لقلب نظام الحُكم.
ورغم هذا الكمين الخبيث، إلا أنني أجد حسنة وحيدة في كلام هؤلاء الأشرار، وهي شهادتهم بأن المسيح صادق في تعليمه، ولا يجامل فيها أبدًا، وبأنه بالحق يعلِّم طريق الله، وهذا أمر يقيني كان بلا شك لديهم.
ولكن غاب عنهم ذكاء المسيح المُعلِّم، وحكمته النقية من أي مصالح، ولهذا رد عليهم برده الخالد: «أَعْطُوا إِذًا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا ِللهِ ِللهِ. فَلَمَّا سَمِعُوا تَعَجَّبُوا وَتَرَكُوهُ وَمَضَوْا» (متى٢٢: ٢١)، وكأنه يقول لهم: المشكلة ليست لديَّ أنا، ولكن لديكم أنتم، فلو كنتم قد خضعتم لله، لما كان أسلمكم لسُلطة الأمم عليكم، وأخرهم الرومان وقيصر.
٤- شهادة العامة الحائرين
أما الشهادة الأخرى من أعداء المسيح فقد جاءت من العامة، فمرة قال المسيح لليهود غير المؤمنين به: «أَنَا مَعَكُمْ زَمَانًا يَسِيرًا بَعْدُ، ثُمَّ أَمْضِي إِلَى الَّذِي أَرْسَلَنِي. سَتَطْلُبُونَنِي وَلاَ تَجِدُونَنِي وَحَيْثُ أَكُونُ أَنَا لاَ تَقْدِرُونَ أَنْتُمْ أَنْ تَأْتُوا» (يوحنا٧: ٣٣، ٣٤). وكان المسيح يقصد بكلامه، أنه على اليهود أن يستغلوا فرصة وجوده معهم، لأنهم سيطلبونه فيما بعد كمخلص ولن يجدوه، ولا يستطيعون المجيء إليه، لأنهم غير مؤمنين بحقيقة شخصيته.
ولكن ما لفت نظري هنا، هو رد فعل اليهود على المسيح بعد الكلام السابق قائلين: «إِلَى أَيْنَ هذَا مُزْمِعٌ أَنْ يَذْهَبَ حَتَّى لاَ نَجِدَهُ نَحْنُ؟ أَلَعَلَّهُ مُزْمِعٌ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى شَتَاتِ الْيُونَانِيِّينَ وَيُعَلِّمَ الْيُونَانِيِّينَ؟» (يوحنا٧: ٣٥).
فاليونانيون كانوا معروفين أنهم منبر الثقافة ومنبع الفلسفة ومُلتقى العلماء، واليهود ظنوا أن المسيح بكلامه العميق لهم، بأنه ضاق ذرعًا بعدم فهمهم، وبأنه سيتركهم ويذهب إلى اليونانيين ليثقفهم في عقر دارهم، وهو كُفء لهذا الأمر، لأن قدراته التعليمية في نظر اليهود، أكبر بكثير من كونه مُعلِّم لليهود!!
٥- شهادة المسيح نفسه
أما دُرة شهادات المسيح المُعلم فجاءت منه هو، فنقرأ ما حدث مثلاً في عيد المظال «وَلَمَّا كَانَ الْعِيدُ قَدِ انْتَصَفَ صَعِدَ يَسُوعُ إِلَى الْهَيْكَلِ وَكَانَ يُعَلِّمُ. فَتَعَجَّبَ الْيَهُودُ قَائِلِينَ: كَيْفَ هَذَا يَعْرِفُ الْكُتُبَ وَهُوَ لَمْ يَتَعَلَّمْ؟» (يوحنا٧: ١٤، ١٥)، فرغم بزوغ نجم المسيح المُعلِّم منذ شبابه، إلا أنه طالما حيّر الناس، لأنه لم يتعلم بالطرق المعروفة وقتها، سواء عن طريق أحد الكتبة أو أحد المعلمين المشهورين مثل بولس الذي تعلم عند رجلي غمالائيل (أعمال٢٢: ٣).
واكتملت حيرتهم عندما أجابهم المسيح: «تَعْلِيمِي لَيْسَ لِي بَلْ لِلَّذِي أَرْسَلَنِي اِنْ شَاءَ أَحَدٌ أَنْ يَعْمَلَ مَشِيئَتَهُ يَعْرِفُ التَّعْلِيمَ هَلْ هُوَ مِنَ اللَّهِ أَمْ أَتَكَلَّمُ أَنَا مِنْ نَفْسِي» (يوحنا٧: ١٦، ١٧)؛ فالمسيح أخبرهم أن مصدر تعليمه، ليس كاتب ولا فيلسوف، ولا حتى كاهن أو فريسي، لكن المصدر هو الله تبارك اسمه.
ثم أعطاهم المسيح - وأعطانا معهم - مقياسًا يقيسون به صدق أي مُعلِّم، فقال: «مَنْ يَتَكَلَّمُ مِنْ نَفْسِهِ يَطْلُبُ مَجْدَ نَفْسِهِ، وَأَمَّا مَنْ يَطْلُبُ مَجْدَ الَّذِي أَرْسَلَهُ فَهُوَ صَادِقٌ وَلَيْسَ فِيهِ ظُلْمٌ» (يوحنا٧: ١٨). وبما أن المسيح لم يطلب شهرة أو منفعة أو مال من وراء تعاليمه، لكنه طلب فقط مجد الله أبيه، وخير وخلاص البشر الذي أتى خصيصًا لهم، فهذا دليل على صدق تعاليمه، وعلى صحة مصدرها من عند الله أبيه، وهذه أكبر شهادة لا تعادلها أخرى.
كم من معلمين ومثقفين أفسدتهم السياسة... فغيروا جلدهم إرضاءً للسلطة وتنازلوا عن مبادئهم مُداهنة للأنظمة... فحللوا ما سبق وحرموه وأجازوا ما سبق ومنعوه... أما أنت أيها المسيح المُعلِّم... فقد شهد أعداؤك قبل أحبائك باستقامة تعاليمك... فلست بضعيف حتى تخفيها، ولا بناقل حتى تشوهها... ولأن مصدر تعاليمك هو فقط الله... فلم تخشَ لومة لائم أيًا كان... ولم تطلب مدحٍ أو رضى من أي إنسان.