بعد أن تعرفنا على مصدر تعاليم المسيح، والشهادات التي تحصَّل عليها، نبدأ في التعرف على الأماكن المتنوعة التي كان يعلم منها، وتداخل معها الأوقات التي كان يعلم فيها.
فمن يتصفح الأناجيل سيكتشف أن المسيح لم يلتزم بمكان معين لإلقاء تعاليمه، ولكنه كان يغير أماكن تعليمه بأريحية تامة، حسب الغرض المراد، وحسب التعليم المقدَّم فيها!!
يُعلِّم على الشاطئ
فمثلاً نقرأ مرة عن المسيح «وَإِذْ كَانَ الْجَمْعُ يَزْدَحِمُ عَلَيْهِ لِيَسْمَعَ كَلِمَةَ اللهِ، كَانَ وَاقِفًا عِنْدَ بُحَيْرَةِ جَنِّيسَارَتَ. فَرَأَى سَفِينَتَيْنِ وَاقِفَتَيْنِ ... فَدَخَلَ إِحْدَى السَّفِينَتَيْنِ الَّتِي كَانَتْ لِسِمْعَانَ، وَسَأَلَهُ أَنْ يُبْعِدَ قَلِيلاً عَنِ الْبَرِّ. ثُمَّ جَلَسَ وَصَارَ يُعَلِّمُ الْجُمُوعَ مِنَ السَّفِينَةِ» (لوقا ٥: ١-٣).
وهو أمر عجيب ومشجع في ذات الوقت. عجيب لأن المسيح استخدم البحر كفاصل طبيعي بينه وبين الناس، وأمر سمعان بطرس بالابتعاد قليلاً داخل المياه، ليستغل حركة الرياح، فيستطيع أن يوجه صوته إلى الجموع على الشاطئ بقوة، في وقت لم تكن أجهزة الصوت معروفة بعد!!
أما المشجع؛ فهو أن المسيح تعمَّد أن يُعلم الجموع من سفينة سمعان وأخيه أندراوس، بعد ليلة مريرة أثبتت فشلهم الكامل كصيادين، وبعد أن خاب رجاؤهم حتى في أنفسهم، وكأن المسيح يدربهم على مهمتهم القادمة كما قال لهم: «هَلُمَّ وَرَائِي فَأَجْعَلُكُمَا صَيَّادَيِ النَّاسِ» (متى ٤: ١٩).
يُعلِّم في البيوت
وليس هذا فقط، ولكن المسيح كان يستغل زيارته للبيوت في التعليم أيضًا، وهو أمر مَيَّزه عن سائر معلمي عصره؛ وخاصةً من الكتبة والفريسيين، والذين لا يذهبون للبيوت إلا لحلب المال أو لجلب الشرور.
فنقرأ مثلاً عن المسيح «ثُمَّ دَخَلَ كَفْرَنَاحُومَ أَيْضًا بَعْدَ أَيَّامٍ، فَسُمِعَ أَنَّهُ فِي بَيْتٍ. وَلِلْوَقْتِ اجْتَمَعَ كَثِيرُونَ حَتَّى لَمْ يَعُدْ يَسَعُ وَلاَ مَا حَوْلَ الْبَابِ. فَكَانَ يُخَاطِبُهُمْ بِالْكَلِمَةِ» (مرقس ٢: ١، ٢)، فرغم أن الناس احتشدت حول المسيح، ليصنع معجزات معهم، لكن المسيح المُعلَّم كان يعرف أولويات احتياجاتهم أكثر منهم، فكان يخاطبهم بالكلمة أولاً، لأنه يعرف أنهم يحتاجون للتعليم الروحي قبل الشفاء الجسدي.
يُعلِّم في الجبال
وأيضًا نقرأ ما فعله المسيح في موعظته الشهيرة، حين نقرأ «وَلَمَّا رَأَى الْجُمُوعَ صَعِدَ إِلَى الْجَبَلِ، فَلَمَّا جَلَسَ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ تَلاَمِيذُهُ. فَفتحَ فاهُ وعَلَّمَهُمْ» (متى ٥: ١، ٢). فكانت الجموع تصطف على الجبل المُغطى بالعشب الأخضر، والمسيح يجول بينهم وهو يُلقي تعاليمهم.
وقد يستمر تعليم المسيح للجموع على الجبل أيامًا، وكأنه “مؤتمر” كبير، لدرجة أن مرة أطال المسيح في تعاليمه على جبل بجوار بحر الجليل، حتى ثلاثة أيام، فنست الجموع مأكلها ومشربها من روعة تعاليمه وجاذبيتها، حتى قال المسيح لتلاميذه: «إِنِّي أُشْفِقُ عَلَى الْجَمْعِ، لأَنَّ الآنَ لَهُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ يَمْكُثُونَ مَعِي وَلَيْسَ لَهُمْ مَا يَأْكُلُونَ. وَلَسْتُ أُرِيدُ أَنْ أَصْرِفَهُمْ صَائِمِينَ لِئَلاَّ يُخَوِّرُوا فِي الطَّرِيقِ» (متى ١٥: ٣٢).
يُعلِّم في الشوارع
ونقرأ ما قاله المسيح مرة لليهود: «حِينَئِذٍ تَبْتَدِئُونَ تَقُولُونَ: أَكَلْنَا قُدَّامَكَ وَشَرِبْنَا، وَعَلَّمْتَ فِي شَوَارِعِنَا! فَيَقُولُ: أَقُولُ لَكُمْ: لاَ أَعْرِفُكُمْ مِنْ أَيْنَ أَنْتُمْ، تَبَاعَدُوا عَنِّي يَا جَمِيعَ فَاعِلِي الظُّلْمِ!» (لوقا ١٣: ٢٤-٢٧).
والحقيقة أن تعليم المسيح في الشوارع، لا يقلل أبدًا من قيمته وهيبته، ولا من أهمية تعاليمه، ولكن يثبت أن المسيح ليس لديه ما يخفيه، وأن تعاليمه كلها علنية، ولها وجه واحد، وأنه لم يغير أبدًا تعاليمه، لخوفٍ من سُلطة أو مجاملةٍ لجماعة.
أي معلم ينتظر حتى تأتي إليه الناس ... سواء في قاعات أو منتديات أو أي أماكن أخرى ... أما أنت أيها المسيح فكنت تذهب للناس في أماكنهم؛ بيوتهم وأعمالهم وأسواقهم ... وكنت تستغل كل فرصة تأتي أمامك لترسم طريق الحياة الأبدية أمامهم.
يُعلِّم في المجامع
ولم يتجاهل المسيح الأماكن التقليدية التي كان يتعلم فيها اليهود بانتظام كل يوم سبت، فنقرأ عنه «وَكَانَ يُعَلِّمُ فِي مَجَامِعِهِمْ مُمَجَّدًا مِنَ الْجَمِيعِ. وَجَاءَ إِلَى النَّاصِرَةِ حَيْثُ كَانَ قَدْ تَرَبَّى. وَدَخَلَ الْمَجْمَعَ حَسَبَ عَادَتِهِ يَوْمَ السَّبْتِ وَقَامَ لِيَقْرَأَ» (لوقا ٤: ١٥، ١٦).
وهذه المجامع كانت أصعب أماكن يُعلم فيها المسيح، وأقسى حتى من الجبال والبرية، والسبب أنها كانت تذخر بالمشاكل، مثل الإنسان ذو روح نجس في مجمع كفرناحوم (مرقس ١: ٢١-٢٧)، وأيضًا بالكمائن، مثل الإنسان ذو اليد اليابسة في المجمع، ليروا هل يشفيه أم لا (مرقس ٣: ١-٥)، ومع ذلك كان المسيح ملتزمًا بمحبته لليهود، فكان يُعلِّمهم في مجامعهم رغم كل المعطلات والمؤامرات.
يُعلِّم في الهيكل
والأمر لم يتوقف فقط على مجامع اليهود في المدن والقرى، ولكن المسيح كان يعلم في العاصمة أورشليم، وفي الهيكل ذاته، وهذه كانت مخاطرة كبيرة منه، فنقرأ عن المسيح «وَكَانَ فِي النَّهَارِ يُعَلِّمُ فِي الْهَيْكَلِ، وَفِي اللَّيْلِ يَخْرُجُ وَيَبِيتُ فِي الْجَبَلِ ... وَكَانَ كُلُّ الشَّعْبِ يُبَكِّرُونَ إِلَيْهِ فِي الْهَيْكَلِ لِيَسْمَعُوهُ» (لوقا ٢١: ٣٧، ٣٨). فرغم أن المسيح كان بلا مأوى، وكان يبيت في الجبل ليلاً بلا أي راحة جسدية تُذكر، لكنه كان يبُكِّر إلى الهيكل صباحًا بقمة نشاطه وحماسه، فتهرع الجموع إليه ليعلمهم طبقًا لجدوله.
لكن الأعجب هو ما نقرأه عن المسيح أيضًا «وَكَانَ يُعَلِّمُ كُلَّ يَوْمٍ فِي الْهَيْكَلِ، وَكَانَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةُ مَعَ وُجُوهِ الشَّعْبِ يَطْلُبُونَ أَنْ يُهْلِكُوهُ» (لوقا ١٩: ٤٧، ٤٨). وهو أمر فريد جدًا، لأن المسيح كانت حياته مهدّدة، ومطلوب علنًا اغتياله، ومع ذلك كان يُعلِّم الجموع في نفس المكان ونفس الميعاد المعتاد، والأعجب أنه كان يقول نفس التعاليم دون أي مداهنة فيها أو انتقاء منها!!
وسبب هذا الشعور العميق بالأمان عند المسيح، هو ما قاله بعد ذلك، حين جاء اليهود للقبض عليه: «كَأَنَّهُ عَلَى لِصٍّ خَرَجْتُمْ بِسُيُوفٍ وَعِصِيٍّ لِتَأْخُذُونِي! كُلَّ يَوْمٍ كُنْتُ مَعَكُمْ فِي الْهَيْكَلِ أُعَلِّمُ وَلَمْ تُمْسِكُونِي! وَلكِنْ لِكَيْ تُكْمَلَ الْكُتُبُ» (مرقس ١٤: ٤٨، ٤٩). فالمسيح كان يدرك أنه طالما أن مصيره في يد الله أبيه وحبيبه، فسيستمر في رسالته لتعليم الناس، مهما كانت الإعاقات أو التهديدات، ولن يتراجع عن خطته التعليمية قيد أنملة.