“جوزيبي فيردي” (١٨١٣-١٩٠١) مؤلف موسيقي شهير، ألَّفَ العديد من الأعمال الأوبرالية، وكتب الكثير من الأعمال المسرحية، ومن أشهرها “أوبرا عايدة” التي ألفها بطلب من خديوي مصر إسماعيل، بمناسبة حفل افتتاح قناة السويس عام ١٨٦٦م. وعمل “فيردي“ – طوال حياته - على مواصلة مسيرة أستاذه ومُعلِّمه “جواكينو روسيبي” (١٧٩٢-١٨٧٠)، في ترسيخ التقاليد الأوبرالية الإيطالية، في مواجهة تيار الحداثة المُتأثر بأعمال الموسيقار الألماني “ريتشارد فاجنر” (١٨١٣-١٨٨٣).
لاقت أوبراه الأولى “إيرل أوفيرت”، نجاحًا منقطع النظير في عرضها الأول في دار الأوبرا في ميلان عام ١٨٣٩م. وأثناء عزف هذه الأوبرا، وقف “فيردي“ في الظل، خلف الستار، وثبَّت عينيه على رجل واحد من جمهور الحاضرين، هو أستاذه “روسيبي”. لم يهتم “فيردي” إن كان الناس الذين في القاعة يهتفون له، أو يتهكمون عليه. فقد كان كل ما يُهمُّه هو ابتسامة الموافقةِ والمصادقة والرضى، من أستاذه الخبير الموسيقي “روسيبي”.
وماذا عنا يا صديقي؟ مَن الذي نسعى لإرضائه، والحصول على مصادقته وموافقته على حياتنا؟ مَن الذي تجد نفسكَ تسعى لنوال رضاه (أو رضاهم)؟ ولماذا رضاه (أو رضاهم) هام جدًا بالنسبة لك؟ وهل يُشبعك ويُرضيك رِضَا الله أكثر من رِضَا أي شخص آخر؟
لقد شُهِدَ عن “أَخْنُوخ” «أَنَّهُ قَدْ أَرْضَى اللهَ» (عبرانيين١١: ٥)، بعدما «سَارَ... مَعَ اللهِ... ثَلاَثَ مِئَةِ سَنَةٍ» (تكوين٥: ٢٢). لقد أرْضَى “أَخْنُوخُ” اللهَ بسيره معه. والسير مع الله يعني العيشة في طاعة الله، وفي شركة معه؛ الاتفاق معه في الفكر والإرادة، والانفصال عن كل ما لا يوافق ذلك، لأنه «هَلْ يَسِيرُ اثْنَانِ مَعًا إِنْ لَمْ يَتَوَاعَدَا؟» (عاموس٣: ٣). وأن أعيش يومي متمتعًا بحضرته، وأن أبدأ يومي بالشركة الهادئة معه، وألا أُفرِّط في هذه الشركة طوال اليوم. في بيتي، في عملي، في سيري بالشارع، في قيامي بكل ما أُوُكِّل إليَّ من أعمال أيّا كان نوعها. في أكلي، في شربي، في حديثي مع أصدقائي وجيراني وزملائي، في خلوتي، في رفقتي، أستطيع في كل ذلك أن أتحدث إليه، وأسمعه يتحدث معي، ولا أفقده أبدًا طوال اليوم.
إن رضا الله وسروره، ومصادقته وموافقته على حياتنا، هو قمة النتائج والإنجازات وأفضلها إطلاقًا. إننا بالشركة مع الله نُرضيه ونُشبع قلبه. حقًا إن الله يطلب فينا ثمرًا متكاثرًا، ولكنه بالأولى يطلب قلبًا مُحبًا متعلقًا به. هذا هو سروره. وهل هناك ما هو أعظم من أن أعمل سروره، وأُشبع قلبه.
وفي الأصحاح الثاني من رسالة تسالونيكي الأولى (ع٣-٦) نرى لمحة عن الصفات التي يجب أن يتجنبها كل شخص أمين للرب. فأولاً، يجب التخلص من كل ضلال ودنس ومكر (ع٣). ليس هذا فقط، بل أيضًا كل ميل لإرضاء الناس «بَلْ كَمَا اسْتُحْسِنَّا مِنَ اللهِ أَنْ نُؤْتَمَنَ عَلَى الإِنْجِيلِ، هكَذَا نَتَكَلَّمُ، لاَ كَأَنَّنَا نُرْضِي النَّاسَ بَلِ اللهَ الَّذِي يَخْتَبِرُ قُلُوبَنَا» (ع٤). فنحن مسؤولون أمام الله الذي يفحص، ليس فقط كلماتنا أو أفعالنا، بل أيضًا «يَخْتَبِرُ قُلُوبَنَا».
إن كل مؤمن “مؤتمن من الله” على وديعة. وإذا جعلنا هذا نُصب عيوننا، فإننا سنتجنب بالطبع كلام التملق لإرضاء الناس، وعِلَّةِ الطَمَعٍ، وطلب المجد من الناس «فَإِنَّنَا لَمْ نَكُنْ قَطُّ فِي كَلاَمِ تَمَلُّق... وَلاَ فِي عِلَّةِ طَمَعٍ. اَللهُ شَاهِدٌ. وَلاَ طَلَبْنَا مَجْدًا مِنَ النَّاسِ، لاَ مِنْكُمْ وَلاَ مِنْ غَيْرِكُمْ» (ع٥، ٦). وهذه الأمور الثلاثة شائعة بشكل كبير في العالم؛ فالناس بطبيعتهم يطلبون ما هو لأنفسهم، ولذلك يُسيطر عليهم الطمع. والمجد من الناس عزيز أيضًا على قلوب البشر؛ وسواء كانوا يسعون إلى الامتلاك أو المجد، فإنهم يجدون في كلام التملق سلاحًا ناجحًا يستطيعون بواسطته أن يفوزوا برضا أصحاب النفوذ. كل هذه الأمور رفضها الرسول بولس تمامًا. فالشخص الأمين المُكرَّس لله، الله هو الفاحص لقلبه، والله هو الشاهد له، وهذه الأمور لا تليق به.
إنه من السهل جدًا السَّعيُ للحصول على رضا وموافقة المُحيطين بنا، ومن السهل أن تكون لديّنا تلك الرغبة في الحصول على مدحهم واستحسانهم. فيا ليت الرب يُساعدنا – بنعمته – ليرفع عيوننا عليه هو؛ ذاك المجيد الكريم الذي يعرفنا بشكلٍ أفضل، ويُحبنا أكثر من أي شخص آخر «لِذلِكَ نَحْتَرِصُ أَيْضًا مُسْتَوْطِنِينَ كُنَّا أَوْ مُتَغَرِّبِينَ أَنْ نَكُونَ مَرْضِيِّينَ عِنْدَهُ» (٢كورنثوس٥: ٩)، «وَنَعْمَلُ الأَعْمَالَ الْمَرْضِيَّةَ أَمَامَهُ» (١يوحنا٣: ٢٢). «وَنَحْنُ قَابِلُونَ مَلَكُوتًا لاَ يَتَزَعْزَعُ لِيَكُنْ عِنْدَنَا شُكْرٌ بِهِ نَخْدِمُ اللهَ خِدْمَةً مَرْضِيَّةً، بِخُشُوعٍ وَتَقْوَى» (عبرانيين١٢: ٢٨).
أَجْهَلُ مَا سَوْفَ يَأْتِي
فَالْغَدُ فِي عِلْمِ رَبِّي
لَيْسَ هَمِّي مَا يَصِيرُ
هَمِّي أَنْ أُرْضِيَ رَبِّي
|
| فِي الْغَدِ أَوْ بَعْدَهُ
لَيْسَ خَافٍ عِنْدَهُ
مِنْ أُمُورٍ آتِيَاتْ
فِي الْحَيَاةِ وَالْمَمَاتْ
|