بعد أن تعرفنا على مصدر تعاليم المسيح، والشهادات التي تحصَّل عليها، وكذلك الأماكن المتنوعة التي كان يعلِّم منها، هنا ننتقل لجزء شائق قد يغير نظرة القارئ العزيز للأناجيل الأربعة، وهو وسائل الإيضاح التي استخدمها المسيح في توصيل تعاليمه.
فمن أهم مميزات أي معلم، هو قدرته على توصيل تعاليمه بشكل جذاب لمستمعيه، وهو ما انفرد به المسيح؛ فاستخدم وسائل إيضاح مختلفة؛ مثل الخبرة أو القصة أو الطبيعة أو الأمثال أو الثقافة، وكانت لديه مهارة عالية في اختيار الوسيلة المناسبة للجمهور المناسب، وهذا جعل تعاليمه العميقة تكون ممتعة للصغير والكبير.
أولاً: الخِبرة
هذه الوسيلة استخدمها المسيح كثيرًا، وخصوصًا مع العامة من بسطاء الشعب، وهي عبارة عن استعانة المسيح بمكان، يتداول عليه غالبية الناس، ومنهم المسيح الإنسان، الذي يكون مر في هذا المكان ومر بخبرة ما، جعلته يستخلص درسًا هامًا.
ونظرًا لضيق المساحة هنا، وكثرة الأماكن التي ذكرها المسيح في تعاليمه، سأكتفي بمكان واحد استخدم المسيح خبراته – أو خبرات غيره – في شرح أعمق تعاليمه، وفي الرد على أصعب الأسئلة التي وجهت إليه، وهذا المكان هو الأسواق.
الأولاد يغنون:
فمرة جاء تلميذين من عند يوحنا المعمدان، حاملين سؤالاً منه للمسيح قائلين: «أَنْتَ هُوَ الآتِي أَمْ نَنْتَظِرُ آخَرَ؟»، فرد عليهما: «اذْهَبَا وَأَخْبِرَا يُوحَنَّا بِمَا تَسْمَعَانِ وَتَنْظُرَانِ اَلْعُمْيُ يُبْصِرُونَ، وَالْعُرْجُ يَمْشُونَ، وَالْبُرْصُ يُطَهَّرُونَ... وَالْمَوْتَى يَقُومُونَ... وَطُوبَى لِمَنْ لاَ يَعْثُرُ فِيَّ» (متى١١: ٣-٦).
وبعد انصراف تلميذي المعمدان، قال المسيح أحلى كلام عن يوحنا في غيابه، ووصف الناس قائلاً: «وَبِمَنْ أُشَبِّهُ هذَا الْجِيلَ؟ يُشْبِهُ أَوْلاَدًا جَالِسِينَ فِي الأَسْوَاقِ يُنَادُونَ إِلَى أَصْحَابِهِمْ وَيَقُولُونَ: زَمَّرْنَا لَكُمْ فَلَمْ تَرْقُصُوا! نُحْنَا لَكُمْ فَلَمْ تَلْطِمُوا!» ثم علق المسيح: «لأَنَّهُ جَاءَ يُوحَنَّا لاَ يَأْكُلُ وَلاَ يَشْرَبُ، فَيَقُولُونَ: فِيهِ شَيْطَانٌ. جَاءَ ابْنُ الإِنْسَانِ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ، فَيَقُولُونَ: هُوَذَا إِنْسَانٌ أَكُولٌ وَشِرِّيبُ خَمْرٍ، مُحِبٌّ لِلْعَشَّارِينَ وَالْخُطَاةِ. وَالْحِكْمَةُ تَبَرَّرَتْ مِنْ بَنِيهَ Wisdom is justified of her children» (متى١١: ١٦-١٩؛ ولوقا٧: ٣٢-٣٥).
ففي الأسواق في تلك الأيام، لعبة مُلحنة كانت على ألسنة الشباب، وكانت معروفة لدى الغالبية، ومعناها أنه لا شيء يعجب الناس، وتتغير أمزجتهم بسهولة وسرعة، بدليل أن هؤلاء الشباب الذي تغيروا من النقيض (الرقص)، للنقيض الآخر (النوح).
أما عن التعليم الذي قصده المسيح من هذه الخبرة، أن الناس لم ترضَ عن يوحنا الذي يلبس الجلود ويأكل الجراد ويعتكف في البرية، ولم يقبلوا أيضًا بشارة المسيح الذي يعيش معهم ويحتك بهم ويأكل في بيوتهم، بل كانوا يروهما طرفين متناقضين؛ فالمشكلة لم تكن في المسيح أو المعمدان أنهما غير حكماء، لكن المشكلة كانت في عدم إيمان الناس، وهم من أرادوا العثرة بأنفسهم، ولكن الحكمة تبررت لمن يفهمها ويعملها.
العمال ينتظرون:
ونقرأ أيضًا ما قاله المسيح: «فَإِنَّ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ يُشْبِهُ رَجُلاً رَبَّ بَيْتٍ خَرَجَ مَعَ الصُّبْحِ لِيَسْتَأْجِرَ فَعَلَةً لِكَرْمِهِ، فَاتَّفَقَ مَعَ الْفَعَلَةِ عَلَى دِينَارٍ فِي الْيَوْمِ، وَأَرْسَلَهُمْ إِلَى كَرْمِهِ. ثُمَّ خَرَجَ نَحْوَ السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ وَرَأَى آخَرِينَ قِيَامًا فِي السُّوقِ بَطَّالِينَ، فَقَالَ لَهُمُ: اذْهَبُوا أَنْتُمْ أَيْضًا إِلَى الْكَرْمِ فَأُعْطِيَكُمْ مَا يَحِقُّ لَكُمْ. فَمَضَوْا» (متى٢٠: ١-٣).
فرغم أن السوق هو مكان يوجد فيه البائع والمشتري، وكلاهما يستفيد، لكن كان هناك فعلة بطاَّلون بلا عمل، فخرج لهم سيد كريم في الساعة الثالثة اليهودية (أي السادسة صباحًا)، واتفق معهم على أجرة عادلة ومتعارف عليها؛ وهي دينار واحد، وهكذا فعل في الساعة التاسعة صباحًا والثالثة ظهرًا، وحتى الخامسة عصرًا (قبل نهاية نهار العمل بساعة)، ولكنه قال لهم إنه «سيعطيهم ما يحق لهم».
وفي نهاية يوم العمل، وأثناء توزيع اليومية على العمال، نقرأ «فَجَاءَ أَصْحَابُ السَّاعَةِ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ وَأَخَذُوا دِينَارًا دِينَارًا. فَلَمَّا جَاءَ الأَوَّلُونَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ أَكْثَرَ. فَأَخَذُوا هُمْ أَيْضًا دِينَارًا دِينَارًا. وَفِيمَا هُمْ يَأْخُذُونَ تَذَمَّرُوا عَلَى رَبِّ الْبَيْتِ قَائِلِينَ: هؤُلاَءِ الآخِرُونَ عَمِلُوا سَاعَةً وَاحِدَةً، وَقَدْ سَاوَيْتَهُمْ بِنَا نَحْنُ الَّذِينَ احْتَمَلْنَا ثِقَلَ النَّهَارِ وَالْحَرَّ!» (متى٢٠: ٩-١٢)، ويبدو منطقيًا، ويعبر من جانب عن مظلومية هؤلاء العمال، ومن جانب أخر عن عدم عدل وصلاح هذا السيد معهم.
ولكن مهلاً، فرب البيت أجاب على المتذمرين قائلاً: «يَا صَاحِبُ، مَا ظَلَمْتُكَ! أَمَا اتَّفَقْتَ مَعِي عَلَى دِينَارٍ؟ فَخُذِ الَّذِي لَكَ وَاذْهَبْ فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُعْطِيَ هذَا الأَخِيرَ مِثْلَكَ. أَوَ مَا يَحِلُّ لِي أَنْ أَفْعَلَ مَا أُرِيدُ بِمَا لِي؟» (متى٢٠: ١٣-١٥)، فالأمر لا يوجد فيه ظلم البتة، لأن رب البيت اتفق مع عمال الصباح على دينار، وقد أعطاهم إياه دون نقصان، ولكن المسيح أراد أن يوصِّل ما هو أعمق بكثير؛ وهو مبدأ النعمة الذي لم يعرفه اليهود، فرب البيت أراد أن يعطي العمال الذين عملوا ساعة واحدة مثل الباقين رفقًا بحالتهم الصعبة، لأنهم جلسوا ١١ ساعة في السوق بلا عمل، ولم يرجعوا حتى لبيوتهم وعائلاتهم، لأنهم فارغين وبلا مال.
يا لها من نعمة إلهية غنية... جاءت لنا ونحن بطالين وفي الأسواق جالسين ولغيرنا مراقبين... حياتنا بلا طعم ولا ثمر ولا بصمة، ولا نستفيد منها دينارًا... حتى جاء من يرأف بحالتنا... ويُرجعنا بفرح وبتغيير وباختبار لأسرنا وعائلاتنا.
المرائين يُحيون:
وهناك فئة أخرى توجد في الأسواق، ليست من المشتريين ولا البائعين، ولا حتى من الشباب المغنيين أو العمال البطَّالين، ولكن هؤلاء قال عنهم المسيح في حديث الويلات: «عَلَى كُرْسِيِّ مُوسَى جَلَسَ الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ... وَيُحِبُّونَ الْمُتَّكَأَ الأَوَّلَ فِي الْوَلاَئِمِ، وَالْمَجَالِسَ الأُولَى فِي الْمَجَامِعِ، وَالتَّحِيَّاتِ فِي الأَسْوَاقِ، وَأَنْ يَدْعُوَهُمُ النَّاسُ: سَيِّدِي سَيِّدِي!» (متى٢٣: ٢، ٧، ٨).
فرغم أن السوق مكان عمل، والجميع منهمك في التبضع، يذهب هؤلاء المرائيين لحصد التحيات من الناس، ليشحنوا بطاريات كبريائهم البغيض، ويا ويل من لا يترك ما يشتريه أو ما يبيعه ويرفع يديه بالتحية لهم قائلاً: يا سيدي.
ولحديثنا بقية