في اللقاء الأول بين سمعان والرب، غيَّر اسمه إلى بطرس (يوحنا١)، لكن في اللقاء الثاني غيَّر الرب عمله من صياد للسمك إلى صياد للناس (لوقا٥).
كان الصيادون الأربعة: سمعان بطرس وأندراوس أخوه، ويعقوب ويوحنا ابنا زبدي، أصدقاء منذ حداثتهم، ومن بيت صيدا، ويعملون في صيد السمك مع آبائهم، وذهبوا في هذا اليوم ليصيدوا سمكًا من البحيرة، ولكن لم يمسكوا شيئًا، فرجعوا إلى الشاطئ، وغسلوا الشباك، وإذ بهم يبصرون الرب يسوع آتيًا إليهم ومعه جمعًا غفيرًا، ففرحوا، ونسوا تعبهم، ومرارة فشلهم، وحاجة عائلاتهم، ورحبوا به، وقصد الرب سفينة بطرس، «وَسَأَلَهُ أَنْ يُبْعِدَ قَلِيلاً عَنِ الْبَرِّ. ثُمَّ جَلَسَ وَصَارَ يُعَلِّمُ الْجُمُوعَ مِنَ السَّفِينَةِ».
كانت السفينة في البحيرة والجموع على الشاطئ، وكأنه مدرَّج، والجموع جالسة ترى الرب يسوع في السفينة، وتسمع تعليمه العظيم.
لقد استخدم الرب سفينة بطرس منبرًا ليعلِّم منها الجموع المحتشدة، وهو الآن يريد أن يستخدم مواهبنا وإمكانياتنا المادية والعينية، ونحن إذا سلمنا الرب كل ما نملك، فهو يستخدمها بطريقة عجيبة، وتكون لنا المكافأة.
«وَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الْكَلاَمِ قَالَ لِسِمْعَانَ: ابْعُدْ إِلَى الْعُمْقِ وَأَلْقُوا شِبَاكَكُمْ لِلصَّيْدِ. فَأَجَابَ سِمْعَانُ وَقَالَ لَهُ: يَا مُعَلِّمُ، قَدْ تَعِبْنَا اللَّيْلَ كُلَّهُ وَلَمْ نَأْخُذْ شَيْئًا. وَلكِنْ عَلَى كَلِمَتِكَ أُلْقِي الشَّبَكَةَ» (لوقا٥: ٤–٥). عبَّر بطرس عما بداخله من فشل الصيد هذه الليلة، ولكن عندما أمره الرب أطاع، فالطاعة ضرورية جدًا لكل من يريد أن يتبع الرب.
«وَلَمَّا فَعَلُوا ذلِكَ أَمْسَكُوا سَمَكًا كَثِيرًا جِدًّا، فَصَارَتْ شَبَكَتُهُمْ تَتَخَرَّقُ. فَأَشَارُوا إِلَى شُرَكَائِهِمُ الَّذِينَ فِي السَّفِينَةِ الأُخْرَى أَنْ يَأْتُوا وَيُسَاعِدُوهُمْ. فَأَتَوْا وَمَلأُوا السَّفِينَتَيْنِ حَتَّى أَخَذَتَا فِي الْغَرَقِ» (لوقا٥: ٦–٧). عندما أطاع بطرس أمسكوا سمكًا كثيرًا جدًا، لقد كان سمك البحيرة يتسابق ليدخل في شبكة بطرس، فالرب هو المتسلط على «سَمَكَ الْبَحْرِ السَّالِكَ فِي سُبُلِ الْمِيَاهِ» (مزمور٨: ٨).
عندما نتحرك من أنفسنا تكون النتيجة هي الفشل، ولا نأخذ شيئًا، لكن عندما نطيع كلمة الرب، فسيكون الصيد وفيرًا، والسمك كثيرًا جدًا.
في يوم الخمسين تكرَّرت معجزة صيد السمك الكثير جدًا، بالمعنى الروحي، فخدم بطرس خدمة قصيرة مركَّزة موضوعها شخص المسيح وعمله، وكانت النتائج باهرة، إذ ربح ثلاثة آلاف نفس من اليهود للرب (أعمال٢). وفي بيت كرنيليوس بمجرد أن لمست الشبكة المياه امتلأت بالسمك، حتى قال بطرس: «فَلَمَّا ابْتَدَأْتُ أَتَكَلَّمُ، حَلَّ الرُّوحُ الْقُدُسُ عَلَيْهِمْ كَمَا عَلَيْنَا أَيْضًا فِي الْبُدَاءَةِ» (أعمال١١: ١٥). وكان بطرس في كل مرة يربح نفوسًا للرب يتذكر معجزة صيد السمك الكثير جدًا.
ابْعُدْ إِلَى الْعُمْقِ: عبارة قصيرة، لكنها تحمل لنا الكثير من المعاني الروحية، أي الدخول إلى عمق الشركة مع الرب، عمق الشبع بالكلمة، عمق الاختبارات الروحية، عمق التدريبات الروحية والتي لا تخلو من الألم والأحزان، ولكن في النهاية ثمر وفير لمجده هو. فعندما تذهب إلى العمق سترى نفوسًا كثيرة غرقى في وحل الخطية والشهوات، تحتاج إلى من ينشلها.
ليعطنا الرب أن نترك حياة الشاطئ، وندخل إلى العمق معه، فنختبر الثمر الكثير والفرح المستمر.
«اخْرُجْ مِنْ سَفِينَتِي يَا رَبُّ، لأَنِّي رَجُلٌ خَاطِئٌ!» (لوقا٥: ٨).
شعر بطرس أنه أمام الله الخالق، وأمام عظمة المسيح وقدرته ومجده، شعر بعجزه وضعفه، وأمام قداسة المسيح شعر بفساده الداخلي ونجاسته، لقد رأى لمحة من مجد لاهوته، وما قاله عبَّر عن قلبٍ تائب.
كثيرون شعروا بالرهبة والخوف في حضور الرب، مثل: إشعياء النبي الذي قُال: «وَيْلٌ لِي! إِنِّي هَلَكْتُ، لأَنِّي إِنْسَانٌ نَجِسُ الشَّفَتَيْنِ» (إشعياء٦: ٥).
مع أن بطرس قال للرب: «اخْرُجْ مِنْ سَفِينَتِي يَا رَبُّ» لكن الرب لم يخرج من السفينة، لأنه يفهم لغة القلب الذي لمسته النعمة.
في البداية قال بطرس للرب «يا معلم»، ولكن بعد معجزة صيد السمك الكثير جدًا قال: «يا رب»، لأنه شعر أنه أمام الله الظاهر في الجسد.
«فَقَالَ يَسُوعُ لِسِمْعَانَ: “لا َتَخَفْ!”»، ما أروع هذه الكلمة «لاَ تَخَفْ!»، إنها كلمة مشجِّعة لبطرس، ولها سلطان وقوة، ولا يمكن لأحد أن يقولها إلا الله القدير، وما زال الرب يقولها لنا: لا تخف من المستقبل، لا تخف من الناس، ولا الظروف.
«مِنَ الآنَ تَكُونُ تَصْطَادُ النَّاسَ!». أنت يا سمعان مهتم بسمك البحر، لكني مهتم بالناس الذين على الأرض، وأريد أنهم يسمعوا عني ويؤمنوا ويخلصوا، لا أريد هلاكهم، لذلك هل تعمل معي؟
يوجد فرق بين صيد السمك وصيد الناس:
صياد السمك يأخذ السمكة الحية من المياه، فتموت ويبيعها أو يأكلها. أما صياد النفوس فيذهب إلى الأموات بالذنوب والخطايا ويقدم لهم الرب يسوع وعمله لكي يؤمنوا به فيأخذون الحياة الأبدية.
توجد مشابهات بين صيد السمك وصيد الناس:
كل منهما لا بد أن يتصف بالصبر، وطول الأناة، والهدوء، والحكمة، والشجاعة، والجرأة، والإيمان، والثقة والخضوع لله، وأيضًا للتعاون في العمل المشترك.
الصياد يحتاج إلى الاستيقاظ المبكر قبل حمو الشمس، حيث الصلاة والشبع بكلمة الله.
هناك صيد بالسنارة وصيد بالشبكة، الأولى هي خدمة العمل الفردي، والثانية هي خدمة المبشر وسط الجموع الكثيرة.
عندما يصيد الصياد السمك يفرح، والذي يربح نفوسًا للمسيح يفرح فرحًا عظيمًا، هل اختبرت هذا الفرح؟
«تَرَكُوا كُلَّ شَيْءٍ وَتَبِعُوهُ»:
في أنجح يوم، حيث السمك الكثير جدًا، والسفينتين ممتلئتين بالسمك، ترك التلاميذ الأربعة كل شيء وتبعوه، لأنهم وثقوا في الرب يسوع الذي له السيادة والسلطان على كل شيء، هذا هو التكريس الحقيقي، والطاعة الفورية.
ترك بطرس السفينة وعمله الزمني من أجل الرب (لوقا٥: ١١)، وترك إبراهيم أرضه وعشيرته وبيت أبيه (تكوين١٢)، وترك موسى قصر فرعون وخزائن الذهب وملذات الخطية (عبرانيين١١: ٢٤-٢٦)، ونحن ماذا تركنا من أجل الرب؟
لقد تبعوا الرب من قلوبهم، والرب من جانبه وعدهم بالمكافأة (متى١٩: ٢٨)، وكل من يتبع الرب ستكون له المكافأة.
بدأ سمعان بطرس تبعيته للرب بعزم القلب وبدون تردد، ولازمه في فترة خدمته على الأرض، أكل معه وشرب معه، رافقه في البرية والجبل، في البر وفوق المياه، وسمع منه التعليم، وتلامس مع صفاته الجميلة، ورأى آياته وعجائبه الكثيرة التي صنعها، وماذا عنك أنت؟
وللحديث بقية