عبارة قد تبدو صغيرة إلا أنها قيلت في أوقات حيرة عظيمة! وإن اختلفت شخصيات من قالوها واختلفت مواقفهم، إلا أنهم اتفقوا جميعهم في عبورهم بضيقٍ شديد اضطرهم لنطق مثل هذه الكلمات.
فلقد قالها إبراهيم متشفعًا، وقالها فرعون مُخَاتلا. بينما قالها جدعون مترجيًا، وقالها شمشون يائسًا. ولنا في كل منها درسًا وعبرة.
قالها إبراهيم لله متشفعًا لأجل سدوم وعمورة. فلقد بدأ بخمسين بارًا ثم خمسة وأربعين، فأربعين فثلاثين فعشرون، وأخيرًا في مرته السادسة ألقى توسله هذا: «لاَ يَسْخَطِ الْمَوْلَى فَأَتَكَلَّمَ هذِهِ الْمَرَّةَ فَقَطْ. عَسَى أَنْ يُوجَدَ هُنَاكَ عَشَرَةٌ». فَقَالَ: «لاَ أُهْلِكُ مِنْ أَجْلِ الْعَشَرَةِ» (تكوين١٨: ٣٢).
وبعدها ذهب الرب عندما توقف إبراهيم عن الكلام، ورجع إبراهيم إلى مكانه. وربما لو استمر إبراهيم مرة سابعة أخيرة في تشفعه: عسى أن يوجد هناك بارًا واحدًا، لَكان الرب أشفق على المدينة لأجله! فلقد كان فيها بالفعل لوط البار والذي أنقذه الرب من الهلاك وسط الأشرار. «يَعْلَمُ الرَّبُّ أَنْ يُنْقِذَ الأَتْقِيَاءَ مِنَ التَّجْرِبَةِ» (٢بطرس٢: ٩).
أما عن قاسي القلب فرعون، فلقد قال عبارته هذه في الضربة الثامنة، ضربة الجراد الذي غطى وجه كل الأرض حتى أظلمت الأرض، فقال لموسى وهارون: «وَالآنَ اصْفَحَا عَنْ خَطِيَّتِي هذِهِ الْمَرَّةَ فَقَطْ، وَصَلِّيَا إِلَى الرَّبِّ إِلهِكُمَا لِيَرْفَعَ عَنِّي هذَا الْمَوْتَ فَقَطْ» (خروج١٠: ١٧). ولكن بمجرد أن رفع الله عنه هذا الموت، عاد إلى ظُلمة فكره وتحجُّر قلبه، فسار بذلك نحو مصيره المظلم هو وبكره وأفضل جنوده المركبية.
ولكن قالها شمشون أيضًا - في ذلةٍ وانكسار - «فَدَعَا شَمْشُونُ الرَّبَّ وَقَالَ: يَا سَيِّدِي الرَّبَّ، اذْكُرْنِي وَشَدِّدْنِي يَا اَللهُ هذِهِ الْمَرَّةَ فَقَطْ، فَأَنْتَقِمَ نَقْمَةً وَاحِدَةً عَنْ عَيْنَيَّ مِنَ الْفِلِسْطِينِيِّينَ» (قضاة١٦: ٢٨).
وبعد أن عبث مع الخطية مرارًا وتكرارًا، جاءت عليه هذِهِ الْمَرَّةَ التي لم يستطع فيها أن ينتفض حَسَبَ كُلِّ مَرَّة، بل أعقبتها هذِهِ الْمَرَّةَ فَقَطْ! فبعد ثلاث مرات خدع فيها دليلة، كان أنها ضايقته بكلامها يومًا بعد يوم، وألحّت عليه حتى ضاقت نفسه إلى الموت، فكشف لها كل قلبه. «وَلَمَّا رَأَتْ دَلِيلَةُ أَنَّهُ قَدْ أَخْبَرَهَا بِكُلِّ مَا بِقَلْبِهِ، أَرْسَلَتْ فَدَعَتْ أَقْطَابَ الْفِلِسْطِينِيِّينَ وَقَالَتِ: “اصْعَدُوا هذِهِ الْمَرَّةَ فَإِنَّهُ قَدْ كَشَفَ لِي كُلَّ قَلْبِهِ”. فَصَعِدَ إِلَيْهَا أَقْطَابُ الْفِلِسْطِينِيِّينَ وَأَصْعَدُوا الْفِضَّةَ بِيَدِهِمْ. وَقَالَتِ: “الْفِلِسْطِينِيُّونَ عَلَيْكَ يَا شَمْشُونُ”. فَانْتَبَهَ مِنْ نَوْمِهِ وَقَالَ: “أَخْرُجُ حَسَبَ كُلِّ مَرَّةٍ وَأَنْتَفِضُ”. وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الرَّبَّ قَدْ فَارَقَهُ. وكذا فَارَقَتْهُ قُوَّتُهُ» (قضاة١٦: ١٨-٢٠).
وما أبشعها عبارة! بل ربما هي أبشع عبارة على الإطلاق! «وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الرَّبَّ قَدْ فَارَقَهُ». فلقد كان «رُوحُ الرَّبِّ يُحَرِّكُهُ فِي مَحَلَّةِ دَانَ بَيْنَ صُرْعَةَ وَأَشْتَأُولَ» (قضاة١٣: ٢٥) لكنه خرج خارج نطاق تغطية ورفقة وعمل روح الرب، ذلك بنزوله إلى تمنة وذهابه إلى غزة. وبالطبع لم ينزل معه روح الله القدوس إلى تمنة ولا رافقه في غزة، بل فارقه!
وفي تغيُّب عقله وقلبه - «وإذ أَغْوَتْهُ بِكَثْرَةِ فُنُونِهَا، بِمَلْثِ شَفَتَيْهَا طَوَّحَتْه - ذَهَبَ وَرَاءَهَا لِوَقْتِهِ، كَثَوْرٍ يَذْهَبُ إِلَى الذَّبْحِ، أَوْ كَالْغَبِيِّ إِلَى قَيْدِ الْقِصَاصِ... كَطَيْرٍ يُسْرِعُ إِلَى الْفَخِّ وَلاَ يَدْرِي أَنَّهُ لِنَفْسِهِ» (أمثال٧: ٢١-٢٣).
وما أبعد أسلوب حياة هذا القاضي عن حياة قاضٍ آخر هو جدعون الذي لبسه روح الرب، وقد قال هذه العبارة مرتين أيضًا، وكذا أكدَّ له الرب على معيّته له مرتين. «فَظَهَرَ لَهُ مَلاَكُ الرَّبِّ وَقَالَ لَهُ: “الرَّبُّ مَعَكَ يَا جَبَّارَ الْبَأْسِ”… فَقَالَ لَهُ الرَّبُّ: “إِنِّي أَكُونُ مَعَكَ”» (قضاة٦: ١٢، ١٦).
فجدعون في ضعفه وصغر نفسه كان يترجى من الرب علامة بعد أخرى كتأكيد على معية الرب ونصرته. وبالفعل بعد علامة النار التي أكلت تقدمته، والطل الذي غطّى الجزة وحدها بينما على كل الأرض جفاف، سأل جدعون علامة ثالثة: «فَقَالَ جِدْعُونُ لِلهِ: لاَ يَحْمَ غَضَبُكَ عَلَيَّ فَأَتَكَلَّمَ هذِهِ الْمَرَّةَ فَقَطْ. أَمْتَحِنُ هذِهِ الْمَرَّةَ فَقَطْ بِالْجَزَّةِ. فَلْيَكُنْ جَفَافٌ فِي الْجَزَّةِ وَحْدَهَا وَعَلَى كُلِّ الأَرْضِ لِيَكُنْ طَلٌّ» (قضاة٦: ٣٩).
وبالفعل كانت هذه العلامة الثالثة كافية له جدًا - والتي كما نعلم تشير إلى المسيح على الصليب - «فَفَعَلَ اللهُ كَذلِكَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ. فَكَانَ جَفَافٌ فِي الْجَزَّةِ وَحْدَهَا وَعَلَى الأَرْضِ كُلِّهَا كَانَ طَلٌّ» (قضاة٦: ٤٠).
لكن ترى ما الذي صنع الفرق بين حياة هذين القاضيين، جدعون وشمشون؟ لم تكن لجدعون القوة البدنية العظيمة التي كانت لشمشون، إلا انه كان محدَّدَّا قاطعًا (كمعنى الاسم جدعون)، أمينًا في السر، يهتم بشعب الله فيخبّط لهم حنطة في المعصرة ليهربها من المديانيين. وهذه هي الشخصيات التي تلفت نظر الله (إن جاز التعبير)، «فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ الرَّبُّ» (قضاة٦: ١٤). «لأَنَّ عَيْنَيِ الرَّبِّ تَجُولاَنِ فِي كُلِّ الأَرْضِ لِيَتَشَدَّدَ مَعَ الَّذِينَ قُلُوبُهُمْ كَامِلَةٌ نَحْوَهُ» (٢أخبار١٦: ٩).
وإذ ذاك أعطاه الله الشجاعة للسير ضد الكل. فقام وهدم مذبح البعل الذي لأبيه، وعندها غَيّر ابوه اسمه، «فَدَعَاهُ فِي ذَلِكَ ٱلْيَوْمِ “يَرُبَّعْلَ” قَائِلاً: لِيُقَاتِلْهُ ٱلْبَعْلُ لِأَنَّهُ قَدْ هَدَمَ مَذْبَحَهُ». (قضاة٦: ٣٢).
لكن يسجل لنا الوحي اسمًا آخر لجدعون في (٢صموئيل١١: ٢١) هو يربوشث ومعناه: ليخاصم الوثن أو يخاصم العار. وكأن الروح القدس يريد أن يقول لنا إن العِبرة ليست في مخاصمة البعل لجدعون، بل في مخاصمة جدعون للبعل! فلقد جعل جدعون في قلبه أن يخاصم البعل أولًا، ومن ثم خاصمه البعل!
قالوا يوما لأثناسيوس: “العالم ضدك”، فرد قائلا: “وأنا ضد العالم”.
الأمر الذي لا نلاحظه إطلاقًا في حياة شمشون، مع إنه كان نذيرًا لله من بطن أمه، إلا أننا لا نجد فيه سوى التهاون والتساهل الذي أدَّى به في النهاية إلى الاستسلام الكامل. «وَأَنَامَتْهُ عَلَى رُكْبَتَيْهَا وَدَعَتْ رَجُلاً وَحَلَقَتْ سَبْعَ خُصَلِ رَأْسِهِ، وَابْتَدَأَتْ بِإِذْلاَلِهِ، وَفَارَقَتْهُ قُوَّتُهُ» (قضاة١٦: ١٩).
لقد جاءت هذِهِ الْمَرَّةَ فَقَطْ على إبراهيم وفرعون وشمشون وجدعون، فطلب كل منهم طلبة شكلَّتها حالة قلبه ومدى اقترابه أو ابتعاده عن المكان الصحيح. ترى لو أُتيحَت لك طلبة هذِهِ الْمَرَّةَ فَقَطْ، فماذا عساكَ أن تطلب الآن؟!