بعد معجزة إشباع الجموع بالخمسة أرغفة والسمكتين، قالوا: «إِنَّ هذَا هُوَ بِالْحَقِيقَةِ النَّبِيُّ الآتِي إِلَى الْعَالَمِ! وكانوا مُزْمِعُونَ أَنْ يَأْتُوا وَيَخْتَطِفُوهُ لِيَجْعَلُوهُ مَلِكًا» (يوحنا٦: ١٤، ١٥).
بالتأكيد أن هذه الفكرة نالت إعجاب التلاميذ، فهم يعرفون جيدًا أن الرب يسوع هو المسيا الذي يجب أن يملك على شعبه، ولكنهم لم يدركوا أنه ليس في هذا الوقت.
لذلك ألزم الرب تلاميذه أن يدخلوا السفينة ويسبقوه إلى العبر، حتى يصرف الجموع. وفي مرات يُلزمنا الرب أن ندخل في ظروف صعبة، وتجارب مؤلمة، لكنه في حكمته يُخرجنا منها بإختبارات عظيمة عن قدرته ومحبته، وأيضًا نعرف فشلنا وضعفنا، ويختبر إيماننا ويقويه. صرف الرب الجموع، ثم صعد إلى الجبل ليصلي من أجل تلاميذه، إذ رآهم معذبين في الجذف، وهذا يرينا لاهوته، وأن المسافات لا تحده، وظلام الليل لا يمنعه من رؤيتنا، والرب الآن في قمة المجد يرانا في ظروفنا وتجاربنا، ويشعر بنا، ويتألم لآلامنا.
كانوا موضوع صلاته طول الليل، رمز للمسيح الآن في قمة المجد، جالسًا على عرش الله، كرئيس الكهنة العظيم، مشغولاً بقديسيه على الأرض. «وَأَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ قَدْ صَارَتْ فِي وَسْطِ الْبَحْرِ مُعَذَّبَةً مِنَ الأَمْوَاجِ. لأَنَّ الرِّيحَ كَانَتْ مُضَادَّةً». صورة للمؤمنين الآن في بحر هذا العالم، حيث الآلام والضيقات الكثيرة، لقد ظلوا من الهزيع الأول وحتى بداية الرابع، أي أكثر من ٩ ساعات يجدفون بالمجاديف.
ريح عظيمة مضادة: رمز للشيطان، رئيس سلطان الهواء (أفسس٢: ٢)، الذي يهيج الظروف المحيطة ضد المؤمنين.
الأمواج: رمز للأشرار الذين يستخدمهم الشيطان ضد القديسين (إشعياء٥٧: ٢٠).
ظلام الليل: رمز الظلمة الأدبية، حيث الشر والفساد (يوحنا٣: ١٩)، فكمؤمنين نعيش في وسط عالم مملوءٍ بالشر والأشرار.
اضطراب وخوف وصراخ: إعلان عن الضعف البشري.
في لحظات ضعف الإيمان نظن أن الرب لا يرانا أو نسينا، أو متروكين، لكنه لا ينسانا (إشعياء٤٩: ١٤-١٦).
«وَفِي الْهَزِيعِ الرَّابعِ مِنَ اللَّيْلِ مَضَى إِلَيْهِمْ يَسُوعُ مَاشِيًا عَلَى الْبَحْرِ»، لقد سمع أنينهم، ورأى معاناتهم، فأتى لإنقاذهم في الهزيع الرابع (من الثالثة إلى السادسة صباحًا بتوقيتنا الحالي)، بعد فشلهم وتعبهم وعذابهم. الله له توقيت يتدخل فيه بحسب حكمته الصالحة، وعلينا أن ننتظره بخضوع وصبر.
أتى إليهم ماشيًا على البحر، بكيفية عجيبة تُعلن عن لاهوته. فهو المكتوب عنه: «الْمَاشِي عَلَى أَعَالِي الْبَحْرِ» (أيوب٩: ٨)، هو الخالق الذي كل شيء خاضع له.
إن الأمواج التي تزعجنا هي تحت قدمي المسيح، الذي له السلطان والسيادة على كل شيء.
بمجرد صراخهم، قال لهم: «تَشَجَّعُوا! أَنَا هُوَ. لاَ تَخَافُوا»، والرب الذي شجع التلاميذ في ساعة خوفهم، مازال يشجعنا بذات الكلمات.
أنا هو: معناها الكائن بذاته.
لا تخافوا: قالها الرب كثيرًا لمؤمنين خائفين، ليعطنا الرب دائمًا سلامه، فلا نخاف أو نضطرب، ويكون لنا ثقة في وعوده الصادقة. فَأَجَابَهُ بُطْرُسُ وَقَالَ: «يَا سَيِّدُ، إِنْ كُنْتَ أَنْتَ هُوَ، فَمُرْني أَنْ آتِيَ إِلَيْكَ عَلَى الْمَاءِ». تشجع بطرس من كلمات الرب، وفي حماسه المعتاد، طلب هذا الطلب الغريب، والذي لم يفعله أحد من قبل، وهو أن يمشي على الماء، فقال له الرب: تعال، «فَنَزَلَ بُطْرُسُ مِنَ السَّفِينَةِ وَمَشَى عَلَى الْمَاءِ لِيَأْتِيَ إِلَى يَسُوعَ»، كان له أشواق حارة أن يذهب ويقابل الرب.
ترك بطرس السفينة ونزل إلى المياه بناء على أمر الرب، وهنا نجد طاعته السريعة للرب، وأيضًا ثقته في كلمته، فالإيمان جعله يسير على أمواج البحر المضطرب، الإيمان يرى ما لا يُرى، ويصدق غير المعقول، ويعمل المستحيلات، ويمجد الله.
عندما كان بطرس مثبتًا نظره على المسيح كان ماشيًا على أمواج البحر التي تمثل الصعوبات، ونتعلم أنه طالما النظر مثبت على الرب، فإنه «وَيُمَشِّينِي عَلَى مُرْتَفَعَاتِي» (حبقوق٣: ١٩)، قال داود: «جَعَلْتُ الرَّبَّ أَمَامِي فِي كُلِّ حِينٍ، لأَنَّهُ عَنْ يَمِينِي فَلاَ أَتَزَعْزَعُ» (مزمور١٦: ٨).
كان التلاميذ ينظرون إلى بطرس، وهو تارة يرتفع مع الأمواج، وتارة أخرى يهبط إلى أسفل، ولكنهم فجأة وجدوه يغرق، ماذا حدث؟
أنه «رَأَى الرِّيحَ شَدِيدَةً خَافَ. وَإِذِ ابْتَدَأَ يَغْرَقُ، صَرَخَ قِائِلاً: “يَارَبُّ، نَجِّنِي!”».
عندما حوَّل بطرس عينيه من على الرب إلى الرياح، ابتدأ يغرق، وهذا ما يحدث لنا عندما نحوِّل أعيننا من على الرب إلى الظروف أو التجارب أو الأشخاص أو أي شيء آخر غير الرب.
صرخ بطرس: «يَارَبُّ، نَجِّنِي!»، إنها أقصر صلاة، مكونة من كلمتين فقط، لكن خرجتا من عمق الإحتياج والضيق، إنها صرخة للنجاة من الموت، ولا يمكن أن يخزى منتظروه، ولقد وعد الرب قديمًا «وَادْعُنِي فِي يَوْمِ الضِّيقِ أُنْقِذْكَ فَتُمَجِّدَنِي» (مزمور٥٠: ١٥). استجاب الرب فورًا، إذ مكتوب: «فَفِي الْحَالِ»، أي سرعة التدخل الإلهي، وسرعة الإنقاذ.
مَدَّ يَسُوعُ يَدَهُ: يالروعة يد المسيح القديرة، عندما يمدها لمعونتنا (إشعياء٤٨: ١٣).
وَأَمْسَكَ بِهِ: رائع أن الرب يمسكنا بيده القوية فلا نغرق في بحر هذا العالم، فيده تنقذ وتنجي، وترفع وتحفظ، لذلك تغنى آساف قائلاً: «أَمْسَكْتَ بِيَدِي الْيُمْنَى» (مز٧٣: ٢٢).
إن سير بطرس على المياه مرتبط بشيئين وهما: الطاعة لأمر الرب، والثقة في كلمته، بطرس نفذ الأولى، وبعد فترة فشل في الثانية. إن كان بطرس قد فشل في الوصول إلى الرب، لكن الرب لم يتأخر في الوصول إليه في اللحظة المناسبة، إن كان بطرس قد خاب في إيمانه، لكن الرب لا يخيب في نعمته.
«وَلَمَّا دَخَلاَ السَّفِينَةَ سَكَنَتِ الرِّيحُ»، نلاحظ أن الرب لم يقل شيئًا، بل بمجرد دخوله السفينه، سكنت الريح، وهذا يرينا لاهوته. «وَالَّذِينَ فِي السَّفِينَةِ جَاءُوا وَسَجَدُوا لَهُ قَائِلِينَ: بِالْحَقِيقَةِ أَنْتَ ابْنُ اللهِ!». بُهت التلاميذ وتعجبوا في أنفسهم جدًا للغاية، ثم أتوا جميعهم وسجدوا له، معترفين بلاهوته وأنه هو ابن الله.
وليس فقط سكنت الرياح، بل أوصلهم فورًا إلى الأرض اليابسة، إذ مكتوب «وَلِلْوَقْتِ صَارَتِ السَّفِينَةُ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي كَانُوا ذَاهِبِينَ إِلَيْهَا» (يوحنا٦: ٢١). إنها معجزة أخرى، وهنا أجد تعويضات الرب لهم، «وَأُعَوِّضُ لَكُمْ عَنِ السِّنِينَ الَّتِي أَكَلَهَا الْجَرَادُ» (يوئيل٢: ٢٥).
هذه المعجزة قادت بطرس والتلاميذ لإدراك عظمة المسيح، وقدرته غير المحدودة وسلطانه على الخليقة، وأيضًا لاهوته.
وللحديث بقية