«بَعْدَ كُلِّ هذَا حِينَ هَيَّأَ يُوشِيَّا الْبَيْتَ، صَعِدَ نَخُوُ مَلِكُ مِصْرَ إِلَى كَرْكَمِيشَ لِيُحَارِبَ عِنْدَ الْفُرَاتِ. فَخَرَجَ يُوشِيَّا لِلِقَائِهِ... وَأَصَابَ الرُّمَاةُ الْمَلِكَ يُوشِيَّا، فَقَالَ الْمَلِكُ لِعَبِيدِهِ: “انْقُلُونِي لأَنِّي جُرِحْتُ جِدًّا”. فَنَقَلَهُ عَبِيدُهُ مِنَ الْمَرْكَبَةِ وَأَرْكَبُوهُ عَلَى الْمَرْكَبَةِ الثَّانِيَةِ الَّتِي لَهُ وَسَارُوا بِهِ إِلَى أُورُشَلِيمَ فَمَاتَ وَدُفِنَ فِي قُبُورِ آبَائِهِ» (٢أخبار٣٥: ٢٠-٢٤).
يوشيا من الشخصيات اللامعة في كلمة الله وكلما قرأت تاريخه المضيء، الذي يلذ لي أن أدرسه بتأني وتدقيق، أشعر بتعزية بما فعله الله بهذا الملك الشاب التقي الغيور. لكن حين أصل إلى هذه العبارة، ذات الكلمات الثلاث، لتختم سيرة يوشيا ختامًا مأساويًا، ووقعها على أذني مثل دقات ناقوس ينذر بمنحنى خطر على طريقٍ؛ مالت فيه الشمس نحو الغروب وصارت من وقتها الصورة قاتمة بل غريبة وكئيبة بالمقارنة بالمناظر المضيئة والمبهجة قبل ذلك. كأن دقَّات هذه الكلمات الثلاث بمثابة خلفية موسيقية بلحن جنائزي حزين يُفتتح به الفصل الأخير من تلك القصة الرائعة؛ اللامعة والنافعة التي تميزت ببداية حسنة وامتلأت بأفعال عظيمة، لكن للأسف كانت خاتمتها أسيفة وأليمة.
هل لنا درس من هذا المشهد أيضًا؟ يقينًا؛ فنحن نُنذر ونتحذر من أخطاء رجال الله التي ذكرها الوحي لكي لا نقع في ذات الأمر كما قال الكتاب: «فَهذِهِ الأُمُورُ جَمِيعُهَا أَصَابَتْهُمْ مِثَالاً، وَكُتِبَتْ لإِنْذَارِنَا إِذًا مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ قَائِمٌ، فَلْيَنْظُرْ أَنْ لاَ يَسْقُطَ» (١كورنثوس١٠: ١١، ١٢).
«وبعد كل هذا». عبارة تأخذ ببصرنا إلى ما جرى في حياة يوشيا قبل ذلك. أي بعد الأمانة الكثيرة والتقوى الحقيقية في سن مبكرة، بعد الغيرة المتقدة على مجد الله في أيام مظلمة، بعد النهضة القومية التاريخية في تطهير يهوذا من الأصنام.
إن سجل هذا الشاب الأمين زاخر بكل ما هو مشرّف ومشجّع لكل شاب مسيحي تقي أن يحذو حذوه. وأذكر على سبيل الأمثلة:
١- عمل المستقيم في عيني الرب.
٢- ابتدأ يطلب إله داود أبيه.
٣- ابتدأ يطهر يهوذا وأورشليم من الوثنية.
٤- اهتم بترميم بيت الرب وإصلاحه.
٥- أكرم شريعة الرب، وخضع لسلطانها وتواضع أمام الرب.
٦- امتلأ بالغيرة على كرامة ومجد يهوه.
٧- عمل الفصح بكيفية لم يُفعل نظيرها من أيام صموئيل النبي.
شهد عنه الكتاب بهذه الشهادة العظيمة «وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَهُ مَلِكٌ مِثْلُهُ قَدْ رَجَعَ إِلَى الرَّبِّ بِكُلِّ قَلْبِهِ وَكُلِّ نَفْسِهِ وَكُلِّ قُوَّتِهِ حَسَبَ كُلِّ شَرِيعَةِ مُوسَى، وَبَعْدَهُ لَمْ يَقُمْ مِثْلُهُ» (٢ملوك٢٣: ٢٥).
آخر ما ذكره الكتاب له من إنجازات عظيمة كان في السنة الثامنة عشر من ملكه ثم استراحت المملكة لفترة دامت ثلاث عشرة سنة لم يُذكَر خلالها أي عمل ما للرب، فترة خاوية عقيمة خلت من أي عمل روحي عظيم. ثم تأتي هذه العبارة «بعد كل هذا»! ألا تشبه هذه حالة كثيرين من الذين بدأوا بداية قوية مع الرب في شبابهم المبكر، وكانت لديهم غيرة عظيمة وأشواق مقدسة كريمة لعمل الله، بل استخدمهم الرب بالفعل وكانوا سبب بركة لكثيرين. لكن انتهى بهم الأمر مثل ديماس الذي أغواه العالم ببريقه فتعطل سعيه المبارك في خدمة الرب، وبعد كل هذا خلت حياته من إكرام سيده.
أحيانًا سنوات الراحة أو النجاح المادي تأخذنا بعيدًا عن أمور الله الباقية ونتخذ طريق الإرادة العاصية والاعتداد بالذات.
«بعد كل هذا»، نقرأ عن يوشيا أنه تعدى إرادة الله، ولم يسمع لصوت الإنذار الإلهي على لسان نخو ملك مصر، فنقرأ أنه جُرح جرحًا خطيرًا. لم يذكر لنا سفر ملوك الثاني سوى عددين فقط (٢ملوك٢٣: ٢٩، ٣٠)، أما سفر أخبار الأيام الثاني الذي يركز على مجد الله ومقاصده، يذكر لنا شيء من التفصيل؛ يكشف عن عناد يوشيا. «وَلَمْ يُحَوِّلْ يُوشِيَّا وَجْهَهُ عَنْهُ بَلْ تَنَكَّرَ لِمُقَاتَلَتِهِ، وَلَمْ يَسْمَعْ لِكَلاَمِ نَخُوٍ مِنْ فَمِ اللهِ، بَلْ جَاءَ لِيُحَارِبَ فِي بُقْعَةِ مَجِدُّو» (٢أخبار٣٥: ٢٢).
مات يوشيا، وكان هناك مناحة عامة لأجله، ويكتب أرميا مراثيه في موت يوشيا. وأدرك أرميا كنبي أن الرجاء الأخير للحكم الذي بحسب اللّه انتهى بهذا الملك التقي، ولذلك تقررت هذه المراثي «فريضة لإسرائيل»، ولكن في هذا الرثاء كانت عينا أرميا تتجه نحو شخص آخر بخلاف يوشيا، الذي بآلامه يضع نهاية لآلام إسرائيل وفي النهاية يتأسس عرشه إلى الأبد.
يا لها من نهاية مؤسفة لبطل عظيم؛ سيرته مشرّفة وله سجل زاخر بمخافة الله وخدمته! أخطأ يوشيا خطأً ثلاثيًا: تصرف من ذاته، ورفض النصيحة، وأخيرًا: تنكّر؛ أي تصرف كما لا يجب، ظاهرًا على غير حقيقته (ع٢٠-٢٢).
كثيرون من ملوك يهوذا الأتقياء لم تنتهِ حياتهم بذات الروعة التي بدأوا بها فترة ملكهم. هذا ما رأيناه في المشهد الأخير لكل من آسا ويهوشافاط ويوآش وعزيا وحزقيا وهكذا في خاتمة حياة يوشيا أيضًا.
«بعد كل هذا» مات الملك دون أن يتجاوب مع صوت التحذير الذي يمكن أن يوصله الرب لمؤمن من خلال نبي كبير أو حتى عدو شرير. فلماذا تدخل يوشيا في معركة بين الأمم طالما لم تكن تخص شعب اللّه؟ أفما كان يجب أن يعتبر أن هذه الأحداث موجهة من الرب وتمنعه من التدخل؟ إن الدخول في معارك الناس، والمشاركة في سياساتهم، والجري في خططهم، إنما مصيره الهزيمة المؤكدة. ليتنا لا ننسى أن اللّه له اليد العليا في كل ما يجري في العالم. أمثال فرعون نخو، ليس سوى أداة يستخدمها اللّه لتحقيق ما يريده اللّه وليس الإنسان. مات يوشيا التقي في أوج شبابه مبكرًا، مجروحًا بجرح خطير. المؤسف ليس فقط في موته المأساوي بل المحزن إنه مات بطريقة مشابهة لموت الملك الشرير “آخاب”. وفي هذا درس وعبرة لنا جميعًا، أن المؤمن الذي يتصرف بالاستقلال عن إرادة الله - مهما كان ماضيه وتقواه - حتمًا سيفقد مركزه وتأثيره وثمره الحلو.