من العبارات التي تبدو صعبة في عظة الجبل تلك التي نطق بها المسيح قائلاً: «لَا تُعْطُوا
الْمُقَدَّسَ لِلْكِلاَبِ وَلاَ تَطْرَحُوا دُرَرَكُمْ قُدَّامَ الْخَنَازِيرِ لِئَلَّا تَدُوسَهَا بِأَرْجُلِهَا وَتَلْتَفِتَ فَتُمَزِّقَكُمْ» (متى٧: ٦).
فترى ماذا قصد المسيح بهذه الكلمات: المقدس، الكلاب، والخنازير؟
أولاً: ما هي مناسبة هذه العبارة في عظة الجبل الجميلة؟
١. تكلم الرب عن مميزات التلميذ والتابع الحقيقي للمسيح في حياة البر ممثَّلة في الصلاة والصدقة، الصوم وعدم الاكتناز في العالم. وخشى الرب يسوع من دخول التعالي في قلب البعض على الآخر فحذرهم بالقول «لاَ تَدِينُوا لِكَيْ لاَ تُدَانُوا» (متى٧: ١).
٢. أراد الرب أيضًا أن يمنع التلاميذ من الاتجاه للنقيض الآخر، فيتهاونوا في أمور الله ومع الذين يهينون الله، فتكلم الرب بهذه العبارة الخطيرة.
ثانيًا: ما معنى «لاَ تُعْطُوا الْمُقَدَّسَ لِلْكِلاَبِ وَلاَ تَطْرَحُوا دُرَرَكُمْ قُدَّامَ الْخَنَازِير»ِ؟
١. طبعًا ليس المقصود البشارة بالإنجيل، فالرب علمنا أن نذهب للعالم أجمع ونكرز بالإنجيل للكل دون استثناء.
٢. الْمُقَدَّسَ والدرر هما ما يخص الله، أي تعاليم الحقائق الإلهية؛ المسيح ولاهوته وسموه وما يخص كنيسته أيضًا. هذه هي أقداس الله ويجب أن نتصرف فيها ومعها بكل تقدير واحترام.
٣. لم يقصد بهذا التشبيه الخطاة البعيدين عن الله، لأن الله يحب الخطاة وبذل ابنه لأجلهم «وَلَكِنَّ اللهَ بَيَّنَ مَحَبَّتَهُ لَنَا لأَنَّهُ وَنَحْنُ بَعْدُ خُطَاةٌ مَاتَ الْمَسِيحُ لأَجْلِنَا» (رومية٥: ٨). بل عندما أراد المسيح أن يتكلم عن رجوع الخاطئ الضال قال: «افْرَحُوا مَعِي لأَنِّي وَجَدْتُ خَرُوفِي الضَّالَّ» (لوقا١٥: ٦).
٤. قصد الرب بالكلاب والخنازير نوعية خاصة من الناس، هم أقرب بكثير لهذه الحيوانات عن البشر!! فالكلاب توصف بالقسوة والشراسة، وهذا ما وصف به المزمور صالبي المسيح «لأَنَّهُ قَدْ أَحَاطَتْ بِي كِلاَبٌ. جَمَاعَةٌ مِنَ الأَشْرَارِ اكْتَنَفَتْنِي. ثَقَبُوا يَدَيَّ وَرِجْلَيَّ» (مزمور٢٢: ١٦). كما أن الخنازير توصف بمحبتها للقذارة والنجاسة.
٥. فالمعنى ببساطة ألا نلقي بالحقائق والتعاليم المقدسة أمام شخص مستهزئ ويصر على الاستهزاء بأمور الله، ويجب ألا نتهاون أبدًا في مثل هذا الأمور ونتمادى في الحديث معه ومحاولة إقناعه بما نقول. والحكيم سليمان يقول: «مَنْ يُوَبِّخُ مُسْتَهْزِئًا يَكْسَبُ لِنَفْسِهِ هَوَانًا وَمَنْ يُنْذِرُ شِرِّيرًا يَكْسَبُ عَيْبًا» (أمثال٩: ٧). ويلوم الرب على مثل هؤلاء المستهزئين بالقول «إِلَى مَتَى أَيُّهَا الْجُهَّالُ تُحِبُّونَ الْجَهْلَ وَالْمُسْتَهْزِئُونَ يُسَرُّونَ بِالاِسْتِهْزَاءِ» (أمثال١: ٢٢).
ثالثًا: أمثلة كتابية
١. موقف الرب يسوع مع بيلاطس: يُشَبَّه بيلاطس بالكلب في قسوته، حتى أن الرب يسوع يصلي بالنبوة قائلاً «أَنْقِذْ مِنَ السَّيْفِ نَفْسِي. مِنْ يَدِ الْكَلْبِ وَحِيدَتِي» (مزمور٢٢: ٢٠). وبيلاطس في شراسته خلط دماء الجليلين بذبائحهم، وأيضًا في جلده للرب يسوع رغم أنه كان واثقًا تمامًا ببراءته. وعندما وقف الرب يسوع أمامه في المحاكمة أبتدأ بيلاطس الوالي يتهكم على المسيح قائلاً «مَا هُوَ الْحَقُّ؟». وهذا ما جعل الرب يسوع يصمت ولا يجيب على أسئلته «وَقَالَ لِيَسُوعَ: “مِنْ أَيْنَ أَنْتَ؟” وَأَمَّا يَسُوعُ فَلَمْ يُعْطِهِ جَوَابًا» (يوحنا١٩: ٩).
٢. هيرودس: هذا الملك الذي باع أعظم وأقدس الرجال، يوحنا المعمدان، لأجل راقصة. يقول الكتاب أنه فرح لما جاء الرب يسوع يمثل أمامه كمتهم، ويا للعجب، القدوس أمام الدنس الأثيم!! وطرح هيرودس عدة أسئلة على المسيح، لكن الكتاب يسجل لنا هذا القول «وَسَأَلَهُ بِكَلاَمٍ كَثِيرٍ فَلَمْ يُجِبْهُ بِشَيْء» (لوقا٢٣: ٩). فالمسيح لم يطرح درره قدام هذا الخنزير. وما يثبت إصرار هيرودس على نجاسته وشره، فبدلاً من أن يتوب ويرجع للرب، هو وعسكره احتقروا الرب يسوع.
رابعًا: ما هو موقفي من الناس حولنا؟
هل هذا حِلّ وتصريح من المسيح أن ننعت الناس بالحيوانات؟
١. لا بد أن نعرف أنه لم يكن مثل ربنا يسوع في رقته وتقديره لكل إنسان، حتى الذي لطمه ناداه بالقول “يا صاحب”.
٢. ليس لنا أن نصنف الناس، أو نشتم أحدًا «مَنْ قَالَ: يَا أَحْمَقُ يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ نَارِ جَهَنَّمَ» (متى٥: ٢٢). الرب وحده من يعرف الأعماق هو يكشف نوعيات القلوب فيكشف أعماق هيرودس بأنه “ثعلب”، ويفضح دواخل الفريسين الذين هم حيات وأولاد الأفاعي.
٣. نحب الجميع ونظهر لهم المحبة بالعمل والحق، نصفح ونتغاضى عن الإساءة في حقنا، لكن لا يجب أن نتهاون في أمور الله. وهناك مثال رائع في حياة موسى، فهو لم يتأثر عندما تكلمت أخته مريم وهارون أخاه عليه، لكنه ثار وحمي غضبه عندما رأى الشعب يعبدون العجل وكسر اللوحين، بل وأخذ خيمته ونصبها خارج المحلة!! ولقد أوصى الرب تلاميذه أن يبشروا ويكرزوا ولكن أوصاهم أيضًا قائلاً: «وَمَنْ لاَ يَقْبَلُكُمْ وَلاَ يَسْمَعُ كَلاَمَكُمْ فَاخْرُجُوا خَارِجًا مِنْ ذلِكَ الْبَيْتِ أَوْ مِنْ تِلْكَ الْمَدِينَةِ، وَانْفُضُوا غُبَارَ أَرْجُلِكُمْ» (متى١٠: ١٤).
إخوتي كم نحتاج إلى حكمة من فوق، لنعرف متى نتساهل ونتسامح؟ ومتى نقف أشداء ولا نتهاون؟ كما قال الرسول بولس مرة: «اَلَّذِينَ لَمْ نُذْعِنْ لَهُمْ بِالْخُضُوعِ وَلاَ سَاعَةً، لِيَبْقَى عِنْدَكُمْ حَقُّ الإِنْجِيلِ» (غلاطية٢: ٥). نحتاج إلى شجاعة لنقدم الإنجيل للجميع وشجاعة أيضًا لنصمت ولا نلقي بالحق أمام المستهزئين والمتطاولين على أمور الله. نميز بين أمرين الأول «اكْرِزْ بِالْكَلِمَةِ» (٢تيموثاوس٤: ٢)، والثاني «فَأَعْرِضْ عَنْ هَؤُلاَء» (٢تيموثاوس٣: ٥)، وهذا لن يأتي لنا إلا عندما يكون الرب نفسه مكرَّمًا في قلوبنا، وحقه ثمينًا في أعيننا.