كثيرًا ما نسمع أن الله خلقنا لمجده، وأننا خُلقنا لكي نعيش لله، ونُكرمه، ونمجده.
ربما يتبادر لأذهاننا فور سماعنا عبارات كهذه أننا مجرد أدوات في يد الله خُلقنا لكي نعيش له. وإن لم نفعل فمصيرنا بحيرة النار والكبريت لأننا لم نحقق رغبته، ولم نُكرمه كما يجب أن يُكرم.
قارئي العزيز، دعنا نفكر في الأمر معًا، حتى نفهم ونُدرك الأمر بطريقة صحيحة، ولكي نفهم القصة بجملتها لا بد أن نعود لبدايتها.
خلق الله آدم بعد أن أعد له كل ما يلزم للحياة، بما في ذلك جنة عدن، مُنبتًا فيها كل شجرة شهية للنظر وجيدة للأكل. ولا بد أن نذكر هنا أن آدم لم يكن كبقية المخلوقات التي خلقها الله؛ فلقد خلق الله الإنسان على صورته، ليس ذلك فقط إنما جعله متسلطًا على كل الخليقة؛ سمك البحر، طير السماء، والبهائم، وعلى كل الأرض. «وَقَالَ اللهُ: نَعْمَلُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا، فَيَتَسَلَّطُونَ عَلَى سَمَكِ الْبَحْرِ وَعَلَى طَيْرِ السَّمَاءِ وَعَلَى الْبَهَائِمِ، وَعَلَى كُلِّ الأَرْضِ، وَعَلَى جَمِيعِ الدَّبَّابَاتِ الَّتِي تَدِبُّ عَلَى الأَرْضِ» (تكوين١: ٢٦). هذا الأمر يؤكد لنا، بما لا يدع مجالاً للشك، قيمة ومقدار الإنسان في عينيَّ الله. فهو لم يخلق له عبدًا، إنما إنسانًا على صورته، ورأسًا وسيدًا على الأرض كلها.
بعد أن خلق الله الإنسان، باركه وكان له حديث رقيق معه؛ لم يكن يتحدث إليه بلغة السيد مع عبيده، إنما بلغة الحب والعطاء والتقدير. ونستطيع القول بأن الله كان يُشارك الإنسان بما يفعله. يقول الكتاب: «وَبَارَكَهُمُ اللهُ وَقَالَ لَهُمْ: أَثْمِرُوا وَاكْثُرُوا وَامْلأُوا الأَرْضَ، وَأَخْضِعُوهَا، وَتَسَلَّطُوا عَلَى سَمَكِ الْبَحْرِ وَعَلَى طَيْرِ السَّمَاءِ وَعَلَى كُلِّ حَيَوَانٍ يَدِبُّ عَلَى الأَرْضِ. وَقَالَ اللهُ: إِنِّي قَدْ أَعْطَيْتُكُمْ كُلَّ بَقْل يُبْزِرُ بِزْرًا عَلَى وَجْهِ كُلِّ الأَرْضِ، وَكُلَّ شَجَرٍ فِيهِ ثَمَرُ شَجَرٍ يُبْزِرُ بِزْرًا لَكُمْ يَكُونُ طَعَامًا. وَلِكُلِّ حَيَوَانِ الأَرْضِ وَكُلِّ طَيْرِ السَّمَاءِ وَكُلِّ دَبَّابَةٍ عَلَى الأَرْضِ فِيهَا نَفْسٌ حَيَّةٌ، أَعْطَيْتُ كُلَّ عُشْبٍ أَخْضَرَ طَعَامًا. وَكَانَ كَذلِكَ» (تكوين١: ٢٨–٣٠).
نأتي للنقطة الجوهرية والهامة في قصتنا مع آدم اليوم؛ حيث يحكي لنا الكتاب أمرًا في غاية الأهمية فيقول: «وَأَخَذَ الرَّبُّ الإِلهُ آدَمَ وَوَضَعَهُ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ لِيَعْمَلَهَا وَيَحْفَظَهَا. وَأَوْصَى الرَّبُّ الإِلهُ آدَمَ قَائِلاً: مِنْ جَمِيعِ شَجَرِ الْجَنَّةِ تَأْكُلُ أَكْلاً، وَأَمَّا شَجَرَةُ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَلاَ تَأْكُلْ مِنْهَا، لأَنَّكَ يَوْمَ تَأْكُلُ مِنْهَا مَوْتًا تَمُوتُ» (تكوين٢: ١٥–١٧). بعد أن جعل الله الإنسان سيدًا ورأسًا لكل الأرض؛ رتب له عملاً في جنة عدن ليستمتع بحياته، عاملاً وحافظًا للجنة. ثم أعطاه وصية صغيرة جدًا لم يكن الهدف منها اختبار آدم، أو لكي ينصب له فخًا ليُسقطه. الأمر ببساطة أن الله أراد أن يُذكَّر آدم بأن هناك سلطة أعلى منه. ولا سبيل لذلك إلا بوصية صغيرة يتذكر بها آدم أن هناك سيدًا يتسلط عليه. تخيل معي أن الله لم يضع لآدم هذه الوصية؛ هذا معناه ببساطة أن آدم سيدًا لكل الخليقة، ولا أحد فوقه. وهذا أمر غير حقيقي لأن الله بالفعل هو السيد والرب والإله. أراد الله لآدم أن يعيش حياة صحيحة بكل ما فيها، آخذًا دوره كسيد على كل الأرض، ولا أحد يعلو فوقه إلا الخالق.
يمكننا تلخيص ما سبق كالتالي:
أولاً: الإنسان ليس مجرد أحد مخلوقات الله؛ إنما هو على صورة الله وله قيمة خاصة جدًا لدى الله.
ثانيًا: جعل الله الإنسان متسلطًا على الخليقة، مما يؤكد أن للإنسان مكانة خاصة جدًا لديه.
ثالثًا: بارك الله الإنسان وكان له حديث خاص وشركة معه، وعلاقة يسودها الحب والتقدير.
رابعًا: وصية الله للإنسان لم يكن الهدف منها إسقاطه، أو وضعه تحت الاختبار إنما بهدف إدراك آدم لدوره ومكانته وتذكيره بأن هناك من يسود عليه، رغم تسلّطه على الخليقة. وهذا يحفظ آدم من السقوط في خطية الكبرياء.
من كل ما سبق نفهم أن الله خلق الإنسان ليكون معه؛ في شركة، وعلاقة محبة لا مثيل لها. تجعل الإنسان يعيش أروع وأعظم حياة. وهذا هو الهدف الرئيسي من خلق الإنسان.
قصة آدم ليست هي القصة الوحيدة التي تعلن لنا هذا الأمر؛ فمن يدرس كلمة الله يجد أن كل من أدركوا هذه الحقيقة عاشوا أعظم وأروع حياة على الأرض؛ رغم ما فيها من صعوبات وأزمات. بعد أن أدركوا كم هم محبوبون، ولهم قيمة خاصة جدًا لدى الله. وأن الله خلقهم ليتمتعوا بالشركة معه، فيعبدوه حبًا، وتقديرًا، واحترامًا.
أدرك أخنوخ هذه الحقيقة فسار مع الله (تكوين٥: ٢٢). قصد الروح القدس أن يذكر لنا هذه العبارة لنُدرك أن العلاقة مع الله ليست علاقة عبد بسيده، إنما هي شركة، وعلاقة حب لا نظير لها.
يعوزنا الوقت إن أردنا الحديث عن علاقة يوسف، وموسى، وداود، وإبراهيم، ودانيال وغيرهم، مع الله. كلهم كانوا يتغذون على هذه العلاقة الطيبة، تركوا الكثير لأجل السير مع الله بعد أن عرفوا قيمة الشركة والعلاقة معه.
ولما جاء المسيح إلى أرضنا فعل الأمر ذاته مع تلاميذه؛ فهو لم يستعبدهم أو يجبرهم على عبادته والخضوع له. بل إن الكتاب يقول لنا إن المسيح اختار تلاميذه «لِيَكُونُوا مَعَهُ، وَلِيُرْسِلَهُمْ لِيَكْرِزُوا» (مرقس٣: ١٤). دائمًا يطلب الله الإنسان ليكون معه. وبعد ذلك تأتي الطاعة، والعبادة، والخدمة؛ نتيجة طبيعية للشركة والعلاقة بين الله والإنسان، حتى إن الخدمة نفسها ليست واجبًا إنما يقول عنها الرسول بولس: «فَإِنَّنَا نَحْنُ عَامِلاَنِ مَعَ اللهِ» (١كورنثوس٣: ٩). فالخدمة هي مشاركة الله في عمله.
إذًا قارئي العزيز؛ لقد خلقنا الله لمجده بالفعل. لكننا لا بد وأن نفهم المقصود بهذه العبارة. فهي لا تعني خلقنا ليستعبدنا، ونمجده مضطرين أو مجبورين. إنما خلقنا لعلاقة خاصة جدًا. ولشركة عميقة معه. وبعلاقتنا الصحيحة معه - المبنية على المحبة والتقدير والإجلال له - فإننا سنمجده بأفعالنا، وسلوكنا أمام الناس فنختبر قول الكتاب: «فَلْيُضِئْ نُورُكُمْ هكَذَا قُدَّامَ النَّاسِ، لِكَيْ يَرَوْا أَعْمَالَكُمُ الْحَسَنَةَ، وَيُمَجِّدُوا أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ» (متى٥: ١٦).