كان موسى مقتدرًا في الأقوال والأفعال وبيده سلطان ملوكي؛ فقد تربى في بيت فرعون كأحد أبناء البلاط الملكي. «وَكَانَ مُقْتَدِرًا فِي الأَقْوَالِ وَالأَعْمَال» (أعمال٧: ٢٢).
لم يكن يومًا هوَّابًا أو خائفًا من التكلم أو إجراء ما يراه فعلاً مناسب. ودليلاً على هذا ما فعله في ذهابه لافتقاد إخوته «وَحَدَثَ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ لَمَّا كَبِرَ مُوسَى أَنَّهُ خَرَجَ إِلَى إِخْوَتِهِ لِيَنْظُرَ فِي أَثْقَالِهِمْ، فَرَأَى رَجُلاً مِصْرِيًّا يَضْرِبُ رَجُلاً عِبْرَانِيًّا مِنْ إِخْوَتِهِ، فَالْتَفَتَ إِلَى هُنَا وَهُنَاكَ وَرَأَى أَنْ لَيْسَ أَحَدٌ، فَقَتَلَ الْمِصْرِيَّ وَطَمَرَهُ فِي الرَّمْلِ» (خروج٢: ١١-١٢).
لكن بعدما تدرب في مدرسة الله ٤٠ سنة في البرية، عاد الله ليكلفه بمهمة عظيمة تحتاج إلى رجل مُدرَّب وحكيم وحليم. كان الرب قد رأى في موسى هذا الرجل خريج مدرسة الله الفائقة. وتكلَّف موسى بمهمة جليلة هي إخراج شعب الرب من أرض العبودية، إلى الأرض التي حلف الرب لآباءهم أن يعطيها. أرض تفيض لبنًا وعسلاً.
ومن مشهد العليقة المهيب (خروج٣) قال الرب: «أَنَا إِلهُ أَبِيكَ...». فَغَطَّى مُوسَى وَجْهَهُ لأَنَّهُ خَافَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى اللهِ. فَقَالَ الرَّبُّ: «إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ مَذَلَّةَ شَعْبِي الَّذِي فِي مِصْرَ وَسَمِعْتُ صُرَاخَهُمْ مِنْ أَجْلِ مُسَخِّرِيهِمْ. إِنِّي عَلِمْتُ أوجاعهم فنزلت لأُنْقِذَهُمْ مِنْ أَيْدِي الْمِصْرِيِّينَ، وَأُصْعِدَهُمْ مِنْ تِلْكَ الأَرْضِ إِلَى أَرْضٍ جَيِّدَةٍ وَوَاسِعَةٍ، إِلَى أَرْضٍ تَفِيضُ لَبَنًا وَعَسَلاً... فَالآنَ هَلُمَّ فَأُرْسِلُكَ إِلَى فِرْعَوْنَ، وَتُخْرِجُ شَعْبِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ مِصْرَ».
كان التكليف إلهيًا والدعم متوفِّر قولاً وفعلاً. لكن كان عند موسى أعذارًا كثيرة تنم عن عدم الثقة في قدراته والشكوك حول كونه يستطيع أن يتمم ما أُمر به. وتوالت الأعذار، وكان الرب صبورًا يجيب على كل تساؤل ويعالج كل شك وريب.
أعذار موسى الأربعة وقراره الغريب
١. «مَنْ أَنَا حَتَّى أَذْهَبَ إِلَى فِرْعَوْنَ، وَحَتَّى أُخْرِجَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ مِصْرَ؟»، إنه الشعور بالدونية وصغر النفس وعدم المقدرة. ومن يشفي هذا، ويعالج هذا التصدع؟ إنه الرب وليس سواه. فقال الرب: «إِنِّي أَكُونُ مَعَكَ». ألا يكفي أن يكون الرب برفقتك يا موسى؟
٢. عاد موسى ليختلق عذرًا جديدًا؛ أن إخوته لن يقبلوا دعوته فهم لا يعلمون من أرسله «هَا أَنَا آتِي إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَقُولُ لَهُمْ: إِلهُ آبَائِكُمْ أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ. فَإِذَا قَالُوا لِي: مَا اسْمُهُ؟ فَمَاذَا أَقُولُ لَهُمْ؟». إنه الشك في أوضح صوره ومحاولة التملُّص من المهمة. لكن يعود الرب مترفقًا بعبده معطيًا إجابات شافية عن سؤاله الثاني «أَهْيَهِ الَّذِي أَهْيَهْ. وَقَالَ: هكَذَا تَقُولُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: أَهْيَهْ أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ».
٣. مجدَّدًا موسى يختلق الأعذار(خروج٤). «وَلكِنْ هَا هُمْ لاَ يُصَدِّقُونَنِي وَلاَ يَسْمَعُونَ لِقَوْلِي، بَلْ يَقُولُونَ: لَمْ يَظْهَرْ لَكَ الرَّبُّ». وهنا يفترض جدلاً أن شعبه لن يصدقه وسوف يشككون في دعوته. ويعود الرب فيصنع تأكيدًا لموسى الخائف «فَقَالَ لَهُ الرَّبُّ: مَا هذِهِ فِي يَدِكَ؟ فَقَالَ: عَصًا». وطال حبل الصبر إلى أكثر مما يتوقع موسى. وبذل الرب كل الجهد لإقناعه.
٤. لكن موسى المتشكك الخائف يصف حاله بأنه غير كفء لهذه المهمة وكأن الله أخطأ التقدير في اختياره هذا. «اسْتَمِعْ أَيُّهَا السَّيِّدُ، لَسْتُ أَنَا صَاحِبَ كَلاَمٍ مُنْذُ أَمْسِ وَلاَ أَوَّلِ مِنْ أَمْسِ، وَلاَ مِنْ حِينِ كَلَّمْتَ عَبْدَكَ، بَلْ أَنَا ثَقِيلُ الْفَمِ وَاللِّسَانِ». ويعود السيد طويل الروح كثير الرحمة إلى معالجة عبده المختار قائلاً «مَنْ صَنَعَ لِلإِنْسَانِ فَمًا؟ أَوْ مَنْ يَصْنَعُ أَخْرَسَ أَوْ أَصَمَّ أَوْ بَصِيرًا أَوْ أَعْمَى؟ أَمَا هُوَ أَنَا الرَّبُّ؟ فَالآنَ اذْهَبْ وَأَنَا أَكُونُ مَعَ فَمِكَ وَأُعَلِّمُكَ مَا تَتَكَلَّمُ بِهِ». يا له من سيد مترفق حكيم يداوي الشكوك بروح الحب والحنو.
لكن ما لبث أن أغلق موسى كل السبل وأعلن قراره الأخير رسميًا؛ الاعتذار عن المهمة، بل الهروب منها خوفًا «فَقَالَ: اسْتَمِعْ أَيُّهَا السَّيِّدُ، أَرْسِلْ بِيَدِ مَنْ تُرْسِلُ». يا له من موقف محزن من رجل كموسى قارب الثمانون سنة ورأى مجد الرب في العليقة وتكلف بمهام جليلة من الرب! أليس هذا حال الكثيرين منا عندما نتصامم أو نختلق الأعذار في مهام يكلفنا بها روح الله القدوس. ليحفظنا الرب. هنا «حَمِيَ غَضَبُ الرَّبِّ عَلَى مُوسَى»، فقد أتى صبر الرب إلى منتهاه. لكن هل يفشل الله فيما قرره؟ حاشا.
وإنه لَدرس عظيم أن نعلم جميعنا أن أناة الله تصبر وتصبر، لكن يومًا ما سيتدخل الرب لتنقيتنا وتعديل مسارنا كأب يؤدب ويقوِّم أبنائه للمنفعة.
ومع هذا لا يتراجع الرب عن قرار إتخذه ولا عن إناء أراد استخدامه. وتمم موسى المهمة بنجاح في نهاية المطاف بعد مارثون طويل من المعاملات الإلهية الفائقة في مصر حتى الخروج، وأيضًا في البرية، بكل التدريبات الشاقة التي أجازهم فيها حتى أسكنهم الرب الأرض التي وعد بها. كانت لغة الإيمان تُغلف ما قاله يشوع للشعب استنادًا على وعود الرب الصادقة (يشوع١: ١-١٥).
لكن يبرز هنا أكثر من تساؤل: هل يختار الرب شخصًا لأداء مهمة ما وهو يعلم أنه لا يصلح لها؟ هل يرسل شخصًا لعمل ما ولا يرافقه ويدعمه؟ هل يخطط لعمل عظيم مستخدمًا أنيته المختارة وفي النهاية يفشل ولا يحقق ما قصده؟
بكل يقين الإجابة كلا وكلا. إن إلهنا الحكيم القدير يشركنا في أعماله ليشرفنا ويتمم بنا مشيئته الصالحة لنكون عاملين معه.
لكن كيف نعالج هذا إذا ما داهمنا هذا الفكر وهذا التشكك؟
أخبر الله بكل شيء
لا سبيل لنا إلا الاعتراف بما نعانيه أمام الرب في محضره بالصلاة. في العهد القديم صلى داود وهو محاصر في مغارة عدلام (١صموئيل١: ٢٢) معترفًا بما يكابده من يد شاول الملك المرفوض أمام الرب طالبًا العون «بِصَوْتِي إِلَى الرَّبِّ أَصْرُخُ. بِصَوْتِي إِلَى الرَّبِّ أَتَضَرَّعُ. أَسْكُبُ أَمَامَهُ شَكْوَايَ. بِضِيقِيْ قُدَّامَهُ أُخْبِرُ» (مزمور١٤٢: ١-٧).
وفي العهد الجديد يعود الروح القدس فيرسم أمامنا السبيل للانتصار على شكوكنا بالقول «لاَ تَهْتَمُّوا بِشَيْءٍ، بَلْ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِالصَّلاَةِ وَالدُّعَاءِ مَعَ الشُّكْرِ، لِتُعْلَمْ طِلْبَاتُكُمْ لَدَى اللهِ. وَسَلاَمُ اللهِ الَّذِي يَفُوقُ كُلَّ عَقْل، يَحْفَظُ قُلُوبَكُمْ وَأَفْكَارَكُمْ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ» (فيلبي٤: ٦-٧).
خلاصة الكلام: قد تدهمنا الشكوك وقد يصيبنا الخوف وقد يزورنا الإحباط؛ لكن بالإيمان وفي مخدع الصلاة نطرح شكوكنا ونخبر الله بكل ما يقلقنا ولنا في وعده الأكيد السلام وقوة الاستخدام والنجاح التام.
نشأت نصحي