التعبير «يَعْظُمُ انْتِصَارُنَا» في رومية٨: ٣٧، والذي يستخدمه الرسول بولس بهذه الثقة الكبيرة، هو كلمة واحدة في اليونانية، ولا تُستخدم إلا في هذه الآية، وبالإنجليزية “more than conquer” أي “أكثر من منتصرين”. هذا التعبير يعني أن أولئك الذين يواجهون الضيقات الشديدة والقوى المضادة (رومية٨: ٣٥)، يخرجون منها منتصرين.
لكن ماذا يعني الرسول بـقوله هنا “أكثر من منتصرين”؟ لا يجتاز المؤمن هذه الصراعات المختلفة، سواء كان سببها البشر أم حتى الشياطين، ويخرج منها فقط منتصرًا، بل يصير أقوى بعدها مما كان عليه قبل الاجتياز فيها. المرة تلو الأخرى يسمح الله لأتقيائه الأمناء أن يكونوا في ضيق شديد، ليجعلهم يختبروا كفاية نعمته وشدة قوته من خلال اجتيازهم هذه الأزمات. وبمعونة إلهية كانوا يخرجون منها أكثر قوة مما كانوا عليه. لكي نفهم هذه الحقيقة علينا أن نلقي نظرة على موضعين في الكتاب المقدس، أحدهما في العهد القديم والآخر في العهد الجديد حيث تُسجَّل هذه الحقيقة المشجعة.
في قصة أيوب، نرى مثالاً من الصراع الهائل الذي يحتدم بلا توقف بين قوى النور والظلام. كما نرى الرب وهو يزيح الستار الذي يفصل العالم الروحي عن العالم المادي، ويسمح لنا في لطفه أن نستمع إلى محادثة بينه وبين الشيطان، هذه المحادثة تتعلق بأيوب، ويعطينا مفتاحًا رئيسيًا لفهم الأحداث التالية المبينة في بقية السفر. أيوب، رغم أنه ليس مثله في تقواه واستقامته على الأرض في ذلك الوقت، كان في خطر شديد من أن يكون منتفخًا نتيجة لذلك. أيوب الذي قال: «إِنِّي فِي وَكْرِي أُسَلِّمُ الرُّوحَ، وَمِثْلَ السَّمَنْدَلِ أُكَثِّرُ أَيَّامًا» (أيوب٢٩: ١٨)؛ أي تطول به الأيام جدًا حتى يموت في بيته شبعان أيامًا، وذلك لأنه «بَارًّا فِي عَيْنَيْ نَفْسِهِ» (أيوب٣٢: ١). في الآية الأولى كان أيوب في خطر أن يضع ثقته في الأشياء التي أنعم الله عليه بها، وفي الثانية تكشف لنا عن ثقته في استحقاقه لذلك لكونه بارًا. لكن الله، وليس مسكن أيوب، هو الذي يضمن حياته وسلامته. كما أن برّه يجب أن يحسب وفقًا لتقدير الله وليس كما يرى هو ذاته. أيوب كان في حاجة أن يتعلم الدرسين، من أجل بركته وسلامته، وقد علَّمه الرب.
الله هو الذي أثار مسألة بر أيوب مع الشيطان، وليس الشيطان مع الله. رأى الله أن أيوب يحتاج إلى هذا الدرس، واستخدم الشيطان فقط لتلقين الدرس. العدو، مستعد دائمًا لمهاجمة القديسين، ويحب أن يجربهم ليخرج منهم الأسوأ، لكن الله في أمانته وسلطانه يستخدم ذات التجربة ليخرج منها الأفضل لعبيده. ما أجمل التقرير في النهاية «وَبَارَكَ الرَّبُّ آخِرَةَ أَيُّوبَ أَكْثَرَ مِنْ أُولاَهُ» (أيوب٤٢: ١٢). بعد هذه التعويضات الجزيلة المباركة يمكن أن يهتف أيوب في الختام إزاء كل ما اجتاز فيه «فِي هذِهِ جَمِيعِهَا يَعْظُمُ انْتِصَارُنَا بِالَّذِي أَحَبَّنَا».
الموضع الآخر في العهد الجديد يتعلق ببطرس، أبرز الرسل، ويتصدر اسمه دائمًا قائمة تلاميذ المسيح، ومع ذلك كان فيه نقطة ضعف معروفة للرب، وأيضًا بسبب خدمته فيما بعد، استدعى الأمر أن يجتاز بطرس هذه التجربة تحت إشراف الله. مرة أخرى نرى الشيطان مُستخدَمًا في هذه التجربة، والرب يسمح له بمهاجمة خادمه. قَالَ الرَّبُّ: «سِمْعَانُ، سِمْعَانُ، هُوَذَا الشَّيْطَانُ طَلَبَكُمْ لِكَيْ يُغَرْبِلَكُمْ كَالْحِنْطَةِ! وَلكِنِّي طَلَبْتُ مِنْ أَجْلِكَ لِكَيْ لاَ يَفْنَى إِيمَانُكَ. وَأَنْتَ مَتَى رَجَعْتَ ثَبِّتْ إِخْوَتَكَ» (لوقا٢٢: ٣١-٣٢).
نرجو أن نتذكر أنه مهما كانت رغبات الشيطان، لا يمكن لشعرة واحدة تسقط من رؤوسنا، دون إذن إلهي. وبالنظر إلى كل من أيوب وسمعان بطرس في أيدي الشيطان لفترة من الوقت، ولكن في كل حالة الشيطان لا يمكن أن يفعل شيئًا إلا بقدر ما سمحت له السيادة والحكمة الإلهية. حتى حين سمح للشيطان لم يقدر أن يقضي على إيمانه. شكرًا للرب قوات الجحيم لا يمكن أن تقضي على إيمان أي قديس.
ما أشد اللطمة التي طالت الشيطان حينما اكتشف أن هجومه على بطرس جعله أقوى مما كان عليه من قبل. هل سبق لإنسان أن أعلن انتسابه للرب بكل جرأة وسط حشد كبير أكثر من التلميذ الذي يومًا أنكر أنه يعرفه؟ كما أنه أنفق حياته في خدمة سيده وفي الختام، مجَّده حتى بموته أيضًا. بالتأكيد بطرس يمكنه أن يهتف أيضًا «يَعْظُمُ انْتِصَارُنَا بِالَّذِي أَحَبَّنَا». من القصتين رأينا نموذجين من الذين يواجهوا أشرس عدو وهو الشيطان وخرجا من صراعهما أكثر قوة بركة. لكن أختم بنموذج آخر لمؤمن تقي يواجه نوعًا آخر من الآلام وتجارب الحياة. رجلاً كان مصابًا بالشلل التام لمدة ثمانية عشر عامًا، وأخيرًا فقد بصره تمامًا: فكتب هذه السطور:
ذات يوم كنت أستطيع أن أرى
أنظر الحقول والسهول المخضِرة
مرصعة بزهور؛ ألوانها الزاهية
مغمورة بأشعة النور الذهبية
أرى طيورًا فوقي وفراشاتٍ لامعة
مع نسمات الربيع يتراقصن معا
بجمال يخلب القلب هكذا يًلمِّحون
والعشب والورود والأشجار يلوحون
الآن أراهم فقط في ذهني مصورين
ثم شيئًا فشيئًا تسلل لنفسي الأنين
ها قد صرت أعمى! هل أنا حقًا ضرير؟
ألست بالإيمان أنظر مخلصي القدير؟
جالسًا على العرش، في ملء العظمة
ووجهه يشع بالمحبة وفيض النعمة
منظر عظيم كهذا أليس هو أفضل كثيرا
من القمر أو النجوم أو الشمس المنيرة
يفوق كل المناظر الطبيعية الباهية
وأي مشهد آخر يبهر العيون الفانية
شكرا لله الذي وضع ساترًا أمام عينيَّ
ليغضَّ بصري عن كل الأشياء الأرضية
ويريني المسيح وحده بمجد بهي قائمًا
من الآن فصاعدًا سيكون قولي دائمًا
«ذات يوم كنت أعمى
أما الان أستطيع أن أرى»
هذه القصيدة المؤثرة نشرها أحد رجال الله، من القرن التاسع عشر بالإنجليزية فلمست قلبي فترجمتها وكنت أود معرفة اسمه الذي لم يُذكره، لكن الجدير بالذكر أن هذا الرجل يقينًا يحسب ضمن الذين صاروا أعظم من منتصرين وسيلمع في المجد وهو يُكَلَّل بإكليل الحياة أمام كرسي المسيح.
(مترجمة بتصرف)
أيمن يوس