رأيته وكان في تلك المرة مختلف عن كل المرات السابقة، فقد كان في السابق عابس الوجه، شاحب اللون، لكن تلك المرة على غير المعتاد رأيته مبتهجًا، مُقبلًا على الحياة بقوة ونشاط. فصرت متلهفًا، وسألته أن يقُص عليَّ ما حدث. لا بد أن هناك سرًا كبيرًا وراء تغييرك هذا. فردَّ عليَّ بهدوء وابتسامة رصينة:“هأقولك بعد ما تعمل لنا فنجانين قهوة”. جلسنا بعد أن أعددت القهوة وصرت متشوقًا لما سيقوله مستمتعًا برائحة وطعم القهوة.
ابتدأ صديقي يتكلم: كنت في اجتماع صغير لا يتجاوز عدد الحضور ٣٠ شخصًا، وكان المتكلم بشوش الوجه يتكلم بهدوء. كنت جالسًا في المقعد الأخير، ولم أعبأ بشيء؛ فقد كنت في قمة تركيزي، لا يهمني من يدخل أو يخرج أو ينظر في موبايله الشخصي ويقفله بسرعة خشية أن يلاحظه أحد.قال الخادم:“وصلت إلى نهاية كلامي، لكني أود أن أنهي بجزء بسيط، وواصل حديثه متكلمًا بنفس هدوئه وقوته، ينبغي أن نغفر بعضنا لبعض يا أحبائي، وليس لبعضنا البعض فقط ولكن للذين يسيئون إلينا ويضطهدوننا”. وهنا احتدت فيَّ روحي، وشعرت بغضب وغليان داخلي، وقُلتُ بيني وبين نفسي:“عزيزي الخادم أنت لا تعلم ماذا فعلوا بي وبعائلتي، كم من المُرّ والظلم قاسيناه، وصعوبة الضغط النفسي الذي عشناه بكل معانيه، أنت لا تعلم شيء عن هذا”.
صمت صديقي عن الكلام لبرهة كأنه يستجمع قواه، والدموع في عينيه، وصَمَتُ أنا أيضًا لشعوري برهبة الموقف؛ لأني أعلم كَم المعاناة التي عاشها صديقي مع عائلته الصغيرة من جرّاء ظلم الآخرين له.
واستكمل صديقي الكلام. وقتها أكمل الخادم حديثه وقال:“ربما أحدكم يقول، أنت لا تعلم ماذا فعل بي الآخرون الذين تطلب مني أن أغفر لهم”. وقتها شعرت برهبة وكأنه لا يوجد أحد في القاعة إلا الخادم وأنا، وكأننا نتحدث معًا بمفردنا. وأكمل الخادم حديثه قائلًا: دعني أخبرك بقصة قصيرة
كان هناك أختان، اسم أحداهما كوري تن بوم واختها ووالدها، وكانوا مؤمنين أتقياء، في طاعة لله وكلمته. وأثناء الاضطهاد الذي وقع على اليهود، كانت حكومة بلادهم تعذب اليهود، وكان من يتستر على يهود يتم اعتقاله بتهمة الخيانة العظمى. قامت هذه الأسرة بإيواء يهود في منزلهم وإنقاذهم من التعذيب والقتل، وكان ذلك يتم في سرية تامة، إلى أن انكشف أمرهم، وتم القبض عليهم جميعًا، وإرسالهم إلى أصعب السجون. وهناك في السجن رقد والدهما في الرب، وسبقهم للسماء، وظلت الأختان في السجن الذي كان يضُم صاحبات الجرائم المُخلة بالآداب. ظلتا تعيشان الحياة المسيحية وتعملان بكل جهدهما وتكلمان باقي النساء عن المسيح. وكان بعد انتهاء يوم العمل الشاق في السجن يستدعيهما الحراس ليقوموا بتعذيبهما وضربهما. ورغم الضرب المبرح الذي أوجع نفوسهما قبل أجسادهما كان ردهما المستمر على الحراس الذين يقومون بتعذيبهما: إننا نصلي لأجلكم ونغفر لكم ما فعتلوه بنا. فكان هذا الرد يثير الحراس أكثر وأكثر فيزداد تعذيبهم لهما. وفي أحد الأيام أثناء تعذيبهما، ضرب أحد الحراس أخت كوري بشدة، ولكنها كانت ثابتة في موقفها وردها إنها تصلي لأجله وتغفر له؛ فقام غاضبًا بسحب مسدسه وأطلق الرصاص عليها فماتت. أمام عيني كوري ماتت أختها رفيقة عمرها وكفاحها، ذهبت لتكون مع أبيها الأرضي وأيضًا أبيها السماوي.
صمت الخادم بعض الشيء لأنه كان منفعل يتصبب جبينه عرقًا، فأخرج منديلًا من القماش ليجفف وجهه المبتل بالعرق واستكمل الحديث: قتل الحارس أخت كوري أمام عينيها مما أثر ذلك الفعل النازي على كوري وظلت صور هذا المشهد في ذاكرتها. بعد وقت خرجت كوري من السجن.
وبعد سنين طويلة، في احتفال لرأس السنة، كانت كوري حاضرة أحد الاجتماعات، وبعد انتهاء الاجتماع أتى شخص لكي يسلم عليها، وخلع قبعته وقال لها: هل تتذكريني؟ وهنا ارتجفت كوري بشدة عندما تذكرت الشخص، فهو الحارس الذي قتل أختها أمام عينيها ولم يترأف عليها أو يرحمها، لا هي ولا أختها. فاضطربت جدًا وهي تتكلم، وتسارعت دقات قلبها وقالت بتنهد وأسف: نعم أتذكرك جيدًا، أنت الذي قتلت أختي أمام عيني. وسالت الدموع على وجنتيها. وقال الحارس: أنا الآن تغيرت وأصبحت ابنًا لله، هل ستغفرين لي فعلتي الشنيعة؟ ومد الحارس يده ليسلم عليها. عندئذ رفعت كوري قلبها لله وهي تقول لله: إن الأمر صعب جدًا، ولا أستطيع أن أفعل ذلك. كانت دموعها تسيل إذ تذكرت الموقف الذي قُتلت فيه أختها، بينما الأخ يمد يده ليسلم على كوري وهي تصلي لله بشدة في قلبها وتنتظر معونة من الله. جاءها الجواب من السماء“افعلي ذلك لأجلي”، وبينما هي تمد يدها لتسلم عليه، عمَّ قلبها السلام والهدوء؛ فصارت في هدوء شديد. فصافحته وقالت له: أنا أغفر لك.
وهنا قال الخادم عزيزي يا من تقول:“أنت لا تعلم ماذا فعلوا بي؟” أعتقد أنهم مهما فعلوا لن يفعلوا بك كما فعلوا بكوري وعائلتها. أطلب منك أن تغفر لتفرح ولتعيش في سلام داخلي وتغفر كما فعل المسيح معك.
أردف صاحبي: وقتها لم أستطع أن أقاوم صوت الروح القدس ومحاصرته لي طالبًا مني أن أنهي هذا الأمر في هذه الليلة، ولا أبقى فيما بعد سجينًا في سجن عدم الغفران. وبالفعل، قبل أن أنام في ذلك اليوم صليت وأطعت صوت الله وغفرت للذين أساؤوا إليًّ، وإذ بسلام داخلي عميق ملأني.
لم يقف الأمر عند هذا الحد، فعندما قابلت الأشخاص وجهًا لوجه، راودتني بعض الشيء صور للمواقف التي عشتها، لكنني قررت أن أذهب إليهم وصافحتهم ولا أكِنُّ داخلي أي كراهية لهم.
وهنا صمت صديقي لبرهة، وكأنّ جبلًا من الأحمال انزاح عن صدره. وختم قائلًا أريد أن أصرخ بأعلى صوت لكل شخص في سجن عدم الغفران: اغفر لأجل نفسك، ولأجل سلامك، ولأجل الله.
«
فَالْبَسُوا كَمُخْتَارِي اللهِ الْقِدِّيسِينَ الْمَحْبُوبِينَ أَحْشَاءَ رَأْفَاتٍ، وَلُطْفًا، وَتَوَاضُعًا، وَوَدَاعَةً، وَطُولَ أَنَاةٍ، مُحْتَمِلِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَمُسَامِحِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا إِنْ كَانَ لأَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ شَكْوَى. كَمَا غَفَرَ لَكُمُ الْمَسِيحُ هكَذَا أَنْتُمْ أَيْضًا وَعَلَى جَمِيعِ هذِهِ الْبَسُوا الْمَحَبَّةَ الَّتِي هِيَ رِبَاطُ الْكَمَالِ وَلْيَمْلِكْ فِي قُلُوبِكُمْ سَلاَمُ اللهِ الَّذِي إِلَيْهِ دُعِيتُمْ فِي جَسَدٍ وَاحِدٍ، وَكُونُوا شَاكِرِينَ.» (كولوسي ٣: ١٢-١٥).