«وَعَمِل... مَا هُوَ مُسْتَقِيمٌ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ كَدَاوُدَ أَبِيهِ» (١ملوك١٥: ١١).
«وَعَمِلَ مَا هُوَ مُسْتَقِيمٌ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ، وَلكِنْ لَيْسَ كَدَاوُدَ أَبِيهِ» (٢ملوك١٤: ٣).
مع بداية حياة كل ملك من ملوك يهوذا يأتي التقرير - تقرير الله نفسه - ليعرّفنا إن كان هذا الملك قد عمل المستقيم في عيني الرب أم عمل الشر في عينيه. ونلاحظ أن الله وضع مقياسًا لسير الملوك بالإستقامة أمامه وهو: إن كان هذا الملك سار وعمل «كَدَاوُدَ أَبِيهِ» أو لم يكن. وكأن هذه هي المسطرة - إن جاز التعبير - التي كان الله يقيس عليها مدى استقامة الملوك!
من ثم، وبنهاية حياة كل ملك، يأتي الختام: وبقية أمور... الأولى والأخيرة أما هي مكتوبة! أي أموره من أولها إلى آخرها مكتوبة ومُسَجَلة (From first to last).
وغالبًا ما كانت تختلف الأمور في النهاية عنها في البداية. ثلاثة ملوك فقط من ٢٠ ملكًا ملكوا على يهوذا قيل عنهم إنهم ساروا على قياس الله، “حسب كل ما عمل داود أبيهم”، وهم آسا وحزقيا ويوشيا. وهكذا تكون النسبة ١٥٪ أما الـ٨٥٪ الباقون فلم يصلوا لهذا المقياس!
وهنا نتوقف لنسأل، لماذا داود بالذات؟ وما هو الأمر الذي رآه الله في داود وفتشَّ عنه في بقية الملوك؟!
لكن قبل أن نقارن داود بغيره من الملوك، دعونا نتذكر الكلمات التي قالها الله لصموئيل عند اختيار داود ملكًا من وسط إخوته الذين رفضهم الرب: «لأَنَّهُ لَيْسَ كَمَا يَنْظُرُ الإِنْسَانُ. لأَنَّ الإِنْسَانَ يَنْظُرُ إِلَى الْعَيْنَيْنِ، وَأَمَّا الرَّبُّ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ إِلَى الْقَلْبِ» (١صموئيل١٦: ٧)، فلقد نظر الله إلى قلب داود مباشرة، ومن ثم اختاره، «لأَنِّي قَدْ رَأَيْتُ لِي فِي بَنِيهِ مَلِكًا!» (١صموئيل١٦: ١). والتعبير «رَأَيْتُ لِي»، يتعدى رؤية العينين إلى القلب، فلم يرَه الله فقط، بل وضع عليه عينيه وفحص قلبه، ومن ثم اختاره لنفسه!
دعونا إذن نأخذ جولة في حياة بعضًا من هؤلاء الملوك الذين عجزوا عن الوصول لمقياس الله فنأخذُ لأنفسنا درسًا وعِبرة.
فأولاً: بمقارنة داود مع شاول الملك الذي رفضه الله، نتذكر كلمات الله بفم صموئيل النبي لشاول: «قَدِ انْتَخَبَ الرَّبُّ لِنَفْسِهِ رَجُلاً حَسَبَ قَلْبِهِ، وَأَمَرَهُ الرَّبُّ أَنْ يَتَرَأَّسَ عَلَى شَعْبِهِ. لأَنَّكَ لَمْ تَحْفَظْ مَا أَمَرَكَ بِهِ الرَّبُّ» (١صموئيل١٣: ١٤). فنجد إذن أن عِلة شاول، هي أنه لم يحفظ ما أمره به الرب، فرفضه الله. ثم تتضح لنا الصورة أكثر بالآية التالية التي تؤكد طاعة داود بالمقابلة مع عصيان شاول.
«ثُمَّ عَزَلَهُ (أي شاول) وَأَقَامَ لَهُمْ دَاوُدَ مَلِكًا، الَّذِي شَهِدَ لَهُ أَيْضًا، إِذْ قَالَ: وَجَدْتُ دَاوُدَ بْنَ يَسَّى رَجُلاً حَسَبَ قَلْبِي، الَّذِي سَيَصْنَعُ كُلَّ مَشِيئَتِي... لأَنَّ دَاوُدَ بَعْدَ مَا خَدَمَ جِيلَهُ بِمَشُورَةِ اللهِ، رَقَدَ وَانْضَمَّ إِلَى آبَائِهِ» (أعمال١٣: ٢٢، ٣٦) ، أما عن التعبير «رَجُلاً حَسَبَ قَلْبِي»، فيأتي هكذا في إحدى الترجمات: He’s a man whose heart beats to my heart “قلبه ينبض مع قلبي”.
وربما هذه القصة المُعَبّرة توضح ما كان الله يبحث عنه تحديدًا:
بعد أن سمح الله بوفاة الصغيرة تايلور، قرر أبواها التبرع بأعضائها للأطفال المحتاجين إليها. فأعطوا - من ضمن ما أعطوا - قلبها لطفلة تُدعى باتريشيا وكانت تُعاني من مشاكل عديدة بقلبها. وبالفعل تمت زراعة قلب تايلور في جسد باتريشيا، فعادت إليها الحياة بأفضل ما يكون. عندما أراد والدا باتريشيا أن يقدموا الشكر لوالدي تايلور، لم يكن لوالدي الطفلة الراحلة سوى طلب واحد، وهو أن يُسمح لهما بسماع قلب ابنتهما وهو ينبض بالحياة في صدر الطفلة باتريشيا! وبالفعل كان لهما ما أرادا. وفى مشهدٍ يصعب وصفه، احتضن الأب والأم الطفلة باتريشيا بتأثرٍ بالغ، واضعين أذنهما على قلبها، ليسمعا من جديد نبضات قلب ابنتهما المحبوبة وهي تنبض تمامًا كما كانت في جسد ابنتهما، ولكنها الآن تنبض في جسدٍ جديد!
ربما كانت هذه إحدى المعاني التي في قلب الله عندما وصف داود بن يسى بأنه «رَجُلاً حَسَبَ قَلْبِي». لقد أمال الله أذنه ووضعها على صدر داود؛ فسمع نبضات تتماشى مع نبضاته، فقال عنه: إنه يصنع كل مشيئته، وأنه يخدم جيله بمشورة الله، وأنه يرعى شعبه إسرائيل بكمال قلبه. ثم يأتي التقرير بنهاية حياة داود: «وَأُمُورُ دَاوُدَ الْمَلِكِ الأُولَى وَالأَخِيرَةُ هِيَ مَكْتُوبَةٌ... مَعَ كُلِّ مُلْكِهِ وَجَبَرُوتِهِ وَالأَوْقَاتِ الَّتِي عَبَرَتْ عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْرَائِيلَ وَعَلَى كُلِّ مَمَالِكِ الأُرُوضِ» (١أخبار٢٩: ٢٩، ٣٠).
«وَأُمُورُ دَاوُدَ الْمَلِكِ الأُولَى وَالأَخِيرَةُ»، يقصد بها ماذا فعل داود وكيف أثَّر فيمن حوله وفيما حوله.
«وَالأَوْقَاتِ الَّتِي عَبَرَتْ عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْرَائِيلَ»، أي الأحداث المحيطة التي حدثت له وكيف أثرّت تلك الأحداث فيه.
هذه وتلك، كانت هي خُلاصة حياة داود التي كُتبت وسُجلت في السماء، وكذا سُجلت وبقيت على الأرض لنقرأها ونتعلم منها، فالأحداث المحيطة فقط لا تصنع قصة حياة، إنما ردود أفعالنا تجاه كل حدث منها هو ما يصنع الحياة!
وبالطبع كلنا نعرف كيف سارت أحداث حياة داود، والأوقات التي عبرت عليه. وكيف عبَر هو بها في أسفار صموئيل والملوك والأخبار، وأيضًا كيف عبَّر عنها في مزاميره.
فمن سن ١٦ إلى ٢٠ سنة، كان وحيدًا يرعى غنيمات أبيه القليلة فى البرية،
ومُسح تقريبًا في سن ١٦ سنة، وقتل الأسد والدب في سن ١٧ سنة، وقتل جليات في سن ٢٠ سنة.
وظل مجهولًا طوال هذه السنوات، لكنه كان ينمّي شركته وعلاقته مع الله، العلاقة التي تنمو وتترعرع كجذور النباتات بعيدًا عن الأعين.
ثم من سن ٢٠ إلى ٣٠ سنة كان منفيًا ومُطاردًا من شاول، وأخيرًا من سن ٣٠ إلى٧٠ صار ملكًا على العرش.
وفي كل هذا يأتي تقرير الله عنه: «لأَنَّ دَاوُدَ عَمِلَ مَا هُوَ مُسْتَقِيمٌ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ وَلَمْ يَحِدْ عَنْ شَيْءٍ مِمَّا أَوْصَاهُ بِهِ كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِهِ، إِلاَّ فِي قَضِيَّةِ أُورِيَّا الْحِثِّيِّ» (١ملوك١٥: ٥).
لكن ترى فيما أخفق سائر ملوك يهوذا فلم يصلوا للقياس الذي أراده الله لهم أن يصلوا إليه؟
هذا ما سنتتبعه من خلال مقارنة حياة داود بغيره من الملوك في الأعداد القادمة بنعمة الرب.