روى أحد خدام الرب هذه القصة:
بعد الحرب العالمية الثانية، أتت فترة ضيق اقتصادي عظيم، فاستأجر والدي مزرعة وانتقل إليها. وكان قد وقّع عقدًا مع صاحب المزرعة، ينص على أنهما يتقاسمان عائدها من ألبان وأجبان وزبدة ومحاصيل زراعية، وحالما جاء الخريف، امتنع المالك عن إعطاء والدي حصته من العائد! وباءت مساعي والدي بالفشل في إقناعه، فذهب لاستشارة محامٍ مسيحي مؤمن.
وبعد أن قرأ المحامي نص الاتفاقية، أخبر والدي بأنه لا يستطيع أن يتخذ أي إجراءٍ قانونيّ بحق المالك! إن صاحب المزرعة كان إنسانًا مخادعًا غشاشًا في كتابة نص الاتفاقية، لدرجة أنه لم يكن في وسعنا أن نحصل منه على شيء من حقوقنا!
واستطرد المحامي المؤمن – بروح الفكاهة - قائلاً لوالدي: “يا أخي الفاضل، عليك أن تختار واحدًا من ثلاثة خيارات (١) إما أن تقتله، وتقع في ورطة! (٢) وإما أن تغشه، فتُصبح مثله تمامًا! (٣) وإما أن ترضى بالواقع، وتدع الله يهتم بالأمر!”
وبعدما أخبرنا والدي بما جرى، قال بأنه كان يعلم أن له اختيارًا واحدًا فقط، وهو وضع الأمر بين يدي الله.
ولم ينل والدي أمواله حتى يومنا هذا، ولكننا كعائلة لم نجُع، ولم يعوزنا شيء البتّة، كما أننا تعلّمنا درسًا قيّمًا؛ إن مَن يُلقِ بنفسه في يدي الله، لن يُهمَل منه أبدًا، فقد اختبرنا بالفعل الوعد الإلهي: «يَمْلأُ إِلهِي كُلَّ احْتِيَاجِكُمْ بِحَسَبِ غِنَاهُ فِي الْمَجْدِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ» (فيلبي٤: ١٩).
ولقد حرَّضنا الرسول بطرس أن نتبع خطوات الرب يسوع، ونقتبس ردود أفعاله، في مواجهة مثل هذه الظروف؛ فلا نعمل خطية، ولا نكُن ماكرين، ونصمت عندما تواجهنا الإهانات، ونستودع أنفسنا لله: «تَارِكًا لَنَا مِثَالاً لِكَيْ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِهِ. الَّذِي لَمْ يَفْعَلْ خَطِيَّةً، وَلاَ وُجِدَ فِي فَمِهِ مَكْرٌ، الَّذِي إِذْ شُتِمَ لَمْ يَكُنْ يَشْتِمُ عِوَضًا، وَإِذْ تَأَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يُهَدِّدُ بَلْ كَانَ يُسَلِّمُ لِمَنْ يَقْضِي بِعَدْل» (١بطرس٢: ٢١-٢٣).
نعم، علينا أن نتبع خطوات الرب يسوع من جهة أنه «لَمْ يَفْعَلْ خَطِيَّةً». فمهما حدث، وكيفما واجهتنا الظروف وتحدّتنا، ومهما كانت الإساءات التي نُعاني منها، والإهانات التي علينا أن نحتملها، فلا يجب أن نُخطئ. فأن لا نُخطئ عندما تتحدانا الظروف الصعبة، لهو أعظم من أن نعمل الخير في الأوقات السهلة. والأفضل أن نحتمل الأخطاء من الآخرين عن كوننا نُخطئ.
وعلى الرغم مما لاقاه الرب يسوع من قسوة موجعة من الأشرار، ولكن لم تخرج من شفتيه كلمة تتسم بالخداع أو المكر «وَلاَ وُجِدَ فِي فَمِهِ مَكْرٌ». فلم تكُن عنده دوافع شريرة تكمن خلف كلماته.
ثم يُذكّرنا بطرس عن الرب أنه «إِذْ شُتِمَ لَمْ يَكُنْ يَشْتِمُ عِوَضًا، وَإِذْ تَأَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يُهَدِّدُ». ففي مواجهة الشتائم والاتهامات الكاذبة والأحقاد، فإنه ظل صامتًا. وعندما انبرت الافتراءات الكاذبة عليه أمام المجمع اليهودي بقي محتفظًا بسلامه «فَكَانَ سَاكِتًا» (متى٢٦: ٦٣)، وأمام بيلاطس «لَمْ يُجِبْهُ وَلاَ عَنْ كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ» (متى٢٧: ١٤). وعندما «احْتَقَرَهُ هِيرُودُسُ مَعَ عَسْكَرِهِ وَاسْتَهْزَأَ بِهِ... لَمْ يُجِبْهُ بِشَيْءٍ» (لوقا٢٣: ٩-١١). وكم هو حسن لنا أن نتبع خطواته، وفي مواجهة كلمات الناس الماكرة التي تأتينا من أي مكان، علينا أن نبقى صامتين.
ويستطرد الرسول بطرس، فيُضيف عن الرب أنه «كَانَ يُسَلِّمُ لِمَنْ يَقْضِي بِعَدْل». إنه – تبارك اسمه - لم يفعل خطية، ولا وُجد في فمه مكر، وأمام كلمات التهديد ظل صامتًا، هذه صفات مسبوقة بأدوات نفي، أما الخطوة الأخيرة فهي صفة إيجابية؛ فعندما نواجه الشتائم فإننا لسنا فقط لا نجيب على الشر والخبث، بل بالحري نترك الإجابة مع الله. ففي مشهد رفض المسيح مِن قِبَل إسرائيل: يقول المسيح بلسان النبوة: «عَبَثًا تَعِبْتُ. بَاطِلاً وَفَارِغًا أَفْنَيْتُ قُدْرَتِي. لكِنَّ حَقِّي عِنْدَ الرَّبِّ، وَعَمَلِي عِنْدَ إِلهِي» (إشعياء٤٩: ٤). لقد كان عمله، فيما يتعلَّق بإسرائيل، بدا كأنه قد فشل، إذ أنه «إِلَى خَاصَّتِهِ جَاءَ، وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ» (يوحنا١: ١١)، لكنه يُفوّض أمره إلى الله. فيقول له الله: «قَلِيلٌ أَنْ تَكُونَ لِي عَبْدًا لإِقَامَةِ أَسْبَاطِ يَعْقُوبَ، وَرَدِّ مَحْفُوظِي إِسْرَائِيلَ. فَقَدْ جَعَلْتُكَ نُورًا لِلأُمَمِ لِتَكُونَ خَلاَصِي إِلَى أَقْصَى الأَرْضِ» (إشعياء٤٩: ٦). فبرفض إسرائيل للمسيح، سيتمُّ عملٌ أعظم؛ إذ تنتشر رسالة الخلاص في العالم الأممي. ثم يتكلَّم الله إلى مَن احتقره الناس «لِلْمُهَانِ النَّفْسِ، لِمَكْرُوهِ الأُمَّةِ، لِعَبْدِ الْمُتَسَلِّطِينَ» (ع٧)، ليُعلّن له الله أنه سوف يُمجّده، إذ سيعرفه ملوك الأرض ورؤساؤها، وسوف يسجدون له ويُقدّمون له الإكرام، وسيتمجَّد في جميع أنحاء العالم. وهو ما لا بد أن يتحقق في القريب العاجل (فيلبي٢: ٦-١١).
أيها الأحباء: إنه غير مسموح لنا مطلقًا أن ننتقم من فاعلي الشر، فالله يحتفظ لنفسه بمطلق سلطانه أن ينتقم كل النقمة «فَإِنَّنَا نَعْرِفُ الَّذِي قَالَ: لِيَ الانْتِقَامُ، أَنَا أُجَازِي، يَقُولُ الرَّبُّ» (عبرانيين١٠: ٣٠). إن نصيبنا إذن أن نتبع خطوات الرب يسوع، وعند مواجهة الاتهامات، لنستودع أنفسنا لمن يقضي بعدل، متذكرين القول: «لاَ تَنْتَقِمُوا لأَنْفُسِكُمْ أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، بَلْ أَعْطُوا مَكَانًا لِلْغَضَبِ، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: لِيَ النَّقْمَةُ أَنَا أُجَازِي يَقُولُ الرَّبُّ» (رومية١٢: ١٩). ونستعيد مرة أخرى قول النبي: «نَصِيبِي هُوَ الرَّبُّ، قَالَتْ نَفْسِي، مِنْ أَجْلِ ذلِكَ أَرْجُوهُ. طَيِّبٌ هُوَ الرَّبُّ لِلَّذِينَ يَتَرَجَّوْنَهُ، لِلنَّفْسِ الَّتِي تَطْلُبُهُ. جَيِّدٌ أَنْ يَنْتَظِرَ الإِنْسَانُ وَيَتَوَقَّعَ بِسُكُوتٍ خَلاَصَ الرَّبِّ» (مراثي٣: ٢٤-٢٦).
تَلَذَّذَنْ بِرَبِّنَا
يُعْطِكَ مَا تَرْغَبْ
سَلِّمْ أُمُورَكَ لَهُ، وَأَنْتَ لا تَتْعَبْ
عَلَيْهِ كُنْ مُتَّكِلاً، وَهْوَ الَّذِي يُجْرِي
يُخْرِجُ كَالنُّورِ الْبَهِيّْ، مَا حُزْتَ مِنْ بِرِّ