أرسلت الشمس أشعتها الذهبية للأرض؛ فتحركت الطيور من مساكنها، تغرد موسيقاها الطبيعية وتنشُر البهجة في أنحاء المعمورة، استيقظ الملك من نومه مُبكرًا؛ ليتأمل كعادته ذلك المنظر البديع ويُسبح الله على عظمته الواضحة في خليقته. بعدما أنهى تأمله؛ بدأ يمارس يومه بأنشطته المُعتادة، تناول طعامه وربما كان يدندن بعضًا من مزاميره، وحوله بعض جنوده ورجاله المُقربين.
وكان ذلك الهدوء الذي يسبق العاصفة، وأتت الرياح بما لا تشتهي السفن. تَغَيَّر الوضع تمامًا، أتى شخص من الخارج مُهرولاً وتعبيرات وجهه توحي بأنه هناك كارثة، يتنفس بصعوبة، يتصبب جبينه عرقًا، كل هذا والجميع ينتظرون أن يعلموا ماذا حدث، قال الرجل بصوت آسِف: لقد قام أبشالوم بإنقلابٍ ضد الملك!
فكان الأمر صاعقًا للملك ولكل رجاله، وبدأ الجميع يفكرون: “ماذا سنفعل أمام تلك الكارثة؟” فأجاب الملك بحزن: «قُومُوا بِنَا نَهْرُبُ، لأَنَّهُ لَيْسَ لَنَا نَجَاةٌ مِنْ وَجْهِ أَبْشَالُومَ. أَسْرِعُوا لِلذَّهَابِ لِئَلاَّ يُبَادِرَ وَيُدْرِكَنَا وَيُنْزِلَ بِنَا الشَّرَّ وَيَضْرِبَ الْمَدِينَةَ بِحَدِّ السَّيْفِ». فخرج الملك من أورشليم وكانت حالته هو ومن معه يُرثى لها «وَكَانَتْ جَمِيعُ الأَرْضِ تَبْكِي بِصَوْتٍ عَظِيمٍ، وَجَمِيعُ الشَّعْبِ يَعْبُرُونَ. وَعَبَرَ الْمَلِكُ فِي وَادِي قَدْرُونَ، وَعَبَرَ جَمِيعُ الشَّعْبِ نَحْوَ طَرِيقِ الْبَرِّيَّةِ... وَأَمَّا دَاوُدُ فَصَعِدَ فِي مَصْعَدِ جَبَلِ الزَّيْتُونِ. كَانَ يَصْعَدُ بَاكِيًا وَرَأْسُهُ مُغَطَّى وَيَمْشِي حَافِيًا، وَجَمِيعُ الشَّعْبِ الَّذِينَ مَعَهُ غَطَّوْا كُلُّ وَاحِدٍ رَأْسَهُ، وَكَانُوا يَصْعَدُونَ وَهُمْ يَبْكُونَ» (أشجعك على قراءة القصة في ٢صموئيل١٥؛ ١٦).
لم يكن الأمر سهلاً بل مؤلمًا جدًا على نفس داود وكل رجاله. كان الملك داود يُفكر حزينًا، كيف يقوم أبشالوم بهذا العمل الشنيع، إنه ابني الذي خرج من صُلبي، لقد عَفوتْ عنه عندما قَتَلْ أخيه أمنون ووافقت بعودته بعد أن كان منفيًا في بلاد غربية، كنت أتوقع أن يكون هو وريث العرش، إلخ، أسئلة موجِعة ومؤلمة للنفس وللأسف أسئلة بلا إجابات.
ما أشد قسوة الخِذلان ولا سيما عندما يأتي من أحباؤنا المُقربين لقلوبنا، الذين نتوقع منهم التشجيع، والمؤازرة، والصدمة الشديدة عندما نجد عكس ذلك ويحدث ما لم يكن في الحُسبان على الإطلاق، عندما تهوي توقعاتنا إلى الأعماق ونختبر خيبة أمل تُضني القلب والجسد، وعلى قدر عُمق العلاقة يكون الجرح أعمق.
لم يكن داود فقط الذي تعرض للخِذلان وخيبة الأمل، لكن ربنا ومخلصنا يسوع المسيح تعرّض - عندما كان بالجسد على الأرض - للخذلان من أقرب الأشخاص لقلبه، فبطرس أنكره ثلاث مرات، وتوما شك في قيامته، ويهوذا الذي خانه. وأنت يا عزيزي القارئ ربما قد تكون تعرضت للخذلان وخيبة الأمل من البشر، مثلي، وما أشد آلامه. فقد تكون تعرضت للخذلان وخيبة الأمل من صديق أو صديقة، أخ أو أخت، أب أو أم، خادم أو خادمة، قد تستغرب هل ممكن أن يكون خادم سببًا في الخذلان؛ نعم فهو بشر ومُعّرَّض للضعف.
لكن كيف نتصرف عندما نتعرض لخيبة الأمل، ويخذلنا أحباؤنا، ما فعله داود في تلك الحادثة هو خير طريقة للتصرف وقت خيبة الأمل، فلم يذهب لقادة جيشه ليندب حظه وما فعله أبشالوم معه، ولم يوجه اللوم لنفسه، بل لجأ إلى الله وقد كتب المزمور الثالث في هذه المناسبة وسنجد في آيات المزمور تعبيرًا عن حالة قلب دواد في تلك الحادثة: «مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ حِينَمَا هَرَبَ مِنْ وَجْهِ أَبْشَالُومَ ابْنِهِ: يَا رَبُّ، مَا أَكْثَرَ مُضَايِقِيَّ! كَثِيرُونَ قَائِمُونَ عَلَيَّ. كَثِيرُونَ يَقُولُونَ لِنَفْسِي: لَيْسَ لَهُ خَلاَصٌ بِإِلهِهِ. سِلاَهْ. أَمَّا أَنْتَ يَا رَبُّ فَتُرْسٌ لِي مَجْدِي وَرَافِعُ رَأْسِي. بِصَوْتِي إِلَى الرَّبِّ أَصْرُخُ، فَيُجِيبُنِي مِنْ جَبَلِ قُدْسِهِ. سِلاَه. أَنَا اضْطَجَعْتُ وَنِمْتُ. اسْتَيْقَظْتُ لأَنَّ الرَّبَّ يَعْضُدُنِي. لاَ أَخَافُ مِنْ رِبْوَاتِ الشُّعُوب الْمُصْطَفِّينَ عَلَيَّ مِنْ حَوْلِي. قُمْ يَا رَبُّ! خَلِّصْنِي يَا إِلهِي! لأَنَّكَ ضَرَبْتَ كُلَّ أَعْدَائِي عَلَى الْفَكِّ. هَشَّمْتَ أَسْنَانَ الأَشْرَارِ. لِلرَّبِّ الْخَلاَصُ عَلَى شَعْبِكَ بَرَكَتُكَ. سِلاَهْ».
ذهب داود لله وسكب نفسه (قال كل اللي جواه) من ضيق وألم وحزن وخوف لله. وهذا هو عين الصواب أن نسكب القلب أمام الله فهو يشعر بنا ويفهمنا حتى لو لم نتكلم. بعد أن سكب داود ما بداخله توجه لله بأنه هو التُرس الذي يحميه ويرفع رأسه وينجيه، وهذا يشجعنا أن نمسك في الرب ونحتمي فيه، ففي كثير من المزامير يتكلم كاتب المزمور لله كأنه صخرته وتُرسه وحمايته وملجأه الحصين، على سبيل المثال مزمور٤٦، وفي عدد ٥ نام داود مُسلمًا نفسه لله ولرعايته، واستيقظ بتعضيد من الله، ثم تأكد أن الله سيخلصه ع٨.
وجد داود وغيره من القديسين في كل الكتاب راحتهم وقت آلامهم في محضر الله بعدما سكبوا نفوسهم أمامه، وهكذا نحن لكي نرتاح ونتشجع وقتما يخذلنا أحباؤنا نذهب لله وكلمته، وهو حتمًا سيتكلم إلينا فهو يحب أن يتكلم إلينا ويترأف بنا في ضيقنا، فهو أبونا صاحب القلب المليء بالمحبة والعطف والحنان، هو يرحب بنا في محضره ليشجعنا وقت الخوار والضعف ويطمئن القلب وقت الخوف والحيرة.
وبالرغم من قسوة خيبة الأمل والخذلان على النفس، لكن هناك نقاطًا مُضيئة ودروسًا يعلمنا الله إياها من خلال تلك المواقف الصعبة.
١. ضعف الإنسان ومحدوديته
أوقات نضع البشر في مكانة أعلى من مكانتهم، ونظن أنهم لا يخطئون، فهم ليسوا كباقي البشر وقد يكون في هذا جزء من الصواب إنهم مختلفون، يتمتعون بصفات نبيلة، وأخلاق جيدة، لكنهم جُبلوا من نفس المادة الخام التي جُبل منها كل البشر، وهي التراب، فمهما عَظم شأنهم وارد أن يخطئوا ويضعفوا.
٢. ثبات الله وأمانته
عندما نختبر ونرى ضعف الإنسان مهما علا شأنه، تتحول قلوبنا وعيوننا لله لنرى أنه هو لا يتغير؛ فيسوع المسيح هو هو أمس واليوم وإلى الأبد، وليس ثابتًا فقط لكن الصادق الأمين والمحب الأقرب من الأخ. فتلتصق نفوسنا به أكثر فأكثر ونحبه ونستمتع بعلاقتنا معها.
عزيزي القارئ أدعوك أن ترفع عينيك من على الأضواء الأرضية الخافتة – الإنسان – للسماء لترى النور الحقيقي الذي ينير كل إنسان وهو الرب يسوع المسيح وتطلبه ليُنير كل ظلمة في حياتك.
أَمْسْ وَالْيَوْمْ وَإِلَى الأَبَدْ يَسُوعُ يَدُومْ
كُلُّ شَيْءٍ يَتَغَيَّرْ يَسُوعُ يَدُومْ
مَجْدًا لاسْمِهِ كُلُّ شَيْءٍ يَتَغَيَّرْ يَسُوعُ يَدُومْ