في هذا الباب من المجلة، جميع الكتب، أُقدم لك صديقي تكملّة لمقدمات باقي أسفار الكتاب المقدس التي سبق تقديمها في باب «سفر مفتوح».
تُسمى أسفار أيوب والمزامير والأمثال والجامعة ونشيد الأنشاد، باسم “الأسفار الشعرية” أو “أسفار الأدب والحكمة” وذلك لأنها كُتبت في الأصل في صورة شعر أو نثر. والبعض يضيف إليها مراثي إرميا.
تقع هذه الأسفار في منتصف الكتاب المقدس وهي تقسم العهد القديم. يسبقها ١٧ سفرًا تاريخيًا يُمَثل أخبار الماضي، ويعقبها ١٧ سفرًا نبويًا يُمَثل تطلعات المستقبل، وهذه الأسفار الخمسة تحكي عن اختبارات الحاضر.
تٌقدم هذه الأسفار حقائق مترابطة، فأيوب يحكي عن الألم الذي وُجد في الخليقة بسبب الخطية وحاجة الإنسان للتبرير والقبول أمام الله، والمزامير تحكي عن الولادة الجديدة من الله وما هي سمات أولاد الله، ثم الأمثال يُقدم السلوك الذي يمجَّد الله وهو نتيجة للولادة الجديدة، والجامعة الذي يكشف خواء العالم وعدم قدرته على إشباع من ولد من الله، وتُختم هذه المجموعة بسفر نشيد الأنشاد حيث يبتغي المولود من الله أن يبقى في الشركة معه دون انقطاع وهو ما سيتحقق بشكل كامل في الأبدية.
يُرى المؤمن في الأسفار الشعرية في أوضاع مختلفة، في أيوب نراه باكيًا شاكيًا ووجهه في التراب، في المزامير نراه على ركبتيه متهللاً ساجدًا ومصليًا، في الأمثال نراه على قدميه سالكًا في العالم، في الجامعة نراه مستلقيًا متفكرًا ومتسائلاً، في نشيد الأنشاد نراه مستمتعًا بالشركة داخل المقادس كيوحنا الذي كان متكئًا في حضن يسوع.
يظهر العنصر الإنساني في هذه الأسفار أكثر من غيرها من باقي الأسفار، حيث تظهر أفكار الإنسان في أيوب والجامعة بصفةٍ خاصة، ومشاعره في المزامير والنشيد، وإرادته في الأمثال وكلها أعطت الأفكار لكتبة الوحي وأعطاهم الروح القدس الألفاظ المناسبة ليكتبوا ما أراد الله أن يصل إلينا لتعليمنا.
هذه المرة سألقي بعض الضوء على سفر أيوب أول الأسفار الشعرية وواحد من أقدم أسفار الكتاب الذي أشجعك على قراءته بعد قراءة هذه المقدمة.
بالرغم من وجود صعوبات في صياغته اللغوية إلا أنه مليء بالحقائق والإعلانات والنفع لشعب الله في كل زمان. قال عنه الأديب الفرنسي العالمي فيكتور هوجو: “إنه ربما يكون أعظم قطعة أدبية على الإطلاق”.
من المرجح أن أيوب هو كاتب هذا السفر طِبقًا لما جاء في أيوب١٩: ٢٣، ويرى آخرون أنه أليهو أو موسى. وفي كل الأحوال فالكاتب الحقيقي هو الروح القدس.
قصة أيوب قصة حقيقية لأن السفر يحدد اسمه ومكان سكناه، أرض عوص (١: ١)، وممتلكاته (١: ٢–٥) وأسماء أصحابه ثم أسماء بناته الذين ولدهن بعد انتهاء تجربته (٤٢: ١٤) كما ورد ذكره في سفر حزقيال (حزقيال١٤: ١٤، ٢٠) مقترنًا بنوح ودانيال وهما شخصيتان حقيقيتان وورد اسمه أيضًا في رسالة يعقوب (يعقوب٥: ١١). ويمكن أن نستنتج أنه عاش أيام إبراهيم أو إسحاق.
أيوب لم يكن من نسل إبراهيم مما يؤكد الحقيقة القديمة أن الله كان، وما زال، يتعامل مع جميع البشر، وأن في «كُلِّ أُمَّةٍ، الَّذِي يَتَّقِيهِ وَيَصْنَعُ الْبِرَّ مَقْبُولٌ عِنْدَهُ» (أعمال١٠: ٣٥). كان أيوب «أَعْظَمَ كُلِّ بَنِي الْمَشْرِقِ» (١: ٣) وكما يُلقب إبراهيم ببطريرك العبرانيين، فإن أيوب يٌلقب ببطريك العرب.
ومن المؤكد أنه عاش بعد الطوفان لأن السفر يشير لحادثة الطوفان (٢٢: ١٦)، وقبل إعطاء الناموس لأنه لا ترد به إشارة لشريعة الله، كما كان أيوب – كرأس العائلة – يقدم ذبائح عن بنيه وهذا ما كان يفعله الآباء قبل الناموس، الأمر المعروف بـ“كهنوت العائلة”.
أعطى الرب الإذن للشيطان أن يجرب أيوب، فأهاج عليه السبئيين والكلدانيين ليأخذوا البقر والأتن والجمال ويضربوا غلمانه بحد السيف وأهاج الرياح لتصدم البيت الذي كان فيه بنيه فسقط وماتوا كلهم. كما أن نار الله سقطت وأحرقت الغنم والغلمان وأكلتهم.
وبعد هذه التجارب الأربع الأولى، تجرَّب أيوب في صحته (٢: ١–٨) ومن زوجته (٢: ٩، ١٠) ثم من أصحابه (الإصحاحات من ٣ إلى ٣٧).
وحتى التجربة السادسة أظهر أيوب كمالاً أدبيًا رائعًا، فعندما فقد كل شيء وفقد أبنائه، مزق جبته وجز شعر رأسه متألمًا لكن في ذات الوقت خرَّ على الأرض ساجدًا وقال: «عُرْيَانًا خَرَجْتُ مِنْ بَطْنِ أُمِّي، وَعُرْيَانًا أَعُودُ إِلَى هُنَاكَ. الرَّبُّ أَعْطَى وَالرَّبُّ أَخَذَ، فَلْيَكُنِ اسْمُ الرَّبِّ مُبَارَكًا. فِي كُلِّ هذَا لَمْ يُخْطِئْ أَيُّوبُ وَلَمْ يَنْسِبْ للهِ جِهَالَة» (١: ٢٠–٢٢). وعندما فقد صحته قال: «أَالْخَيْرَ نَقْبَلُ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَالشَّرَّ لاَ نَقْبَلُ؟» (٢: ١٠)، ولم ينجح الشيطان أن يجعل أيوب يجدف على الله.
ولو انتهى الأمر عند هذا الحد لكان أيوب قد تمسك بكماله أكثر وأصبح لديه ما يزيده قناعةً ببره فسمح الله بتجربة أصحابه، الذين أغاظوه بأقوالهم، فأظهروا شيئًا كان يحتاج إلى إصلاح في كيانه.
يتميز سفر أيوب بالأسئلة إذ يرد به حوالي ٢٥٠ سؤال، والسؤال الأساسي هو: لماذا كل هذا الألم؟ ولم يكن عند أيوب إجابة وظن أصحابه أن لديهم إجابة، لكن السفر يكشف أن إجابتهم كانت خاطئة.
وهذا ما سنتناوله في العدد القدم بمشيئة الرب