«هِيجُوا أَيُّهَا الشُّعُوبُ وَانْكَسِرُوا، وَأَصْغِي يَا جَمِيعَ أَقَاصِي الأَرْضِ. احْتَزِمُوا وَانْكَسِرُوا! احْتَزِمُوا وَانْكَسِرُوا تَشَاوَرُوا مَشُورَةً فَتَبْطُلَ. تَكَلَّمُوا كَلِمَةً فَلاَ تَقُومُ، لأَنَّ اللهَ مَعَنَا!» (إشعياء٨: ٩، ١٠). هذا القول لا يستطع أحدًا أن ينطق به إلا شخص يرى أمام عينيه إلهًا قادرًا، أليس هو هذا إلهنا العظيم؟! نعم إن شعب الله قد يخضع للتأديب لكنه لا يخضع لتهديد العالم ولا للوعيد الذي يطلقه الأشرار!
يظن أهل الدنيا مدعومين بقوى الشر، أن لديهم من القوة والدهاء ما يرهبون به قطيع الرب، متسلحين بمكرهم وكثرة عتادهم، متشجعين بوداعة قطيع الرب، الذي تَعلَّم ألا يُجازي عن شر بشر وظن الأشرار أن تابعي الرب لن يقووا على مقاومتهم أو صد هجومهم.
وعلينا الاعتراف أن قطيع الرب الذي قال عنه السيد: «أُرْسِلُكُمْ مِثْلَ حُمْلاَنٍ بَيْنَ ذِئَابٍ» (لوقا١٠: ٣)، ليس قادرًا بمفرده على صد أي هجوم حتى وإن كان بسيطًا ولا فرض حمايته حتى على أبسط ممتلكاته. فللشر قوة عاتية وأساليب العالم الخادعة سُبل غير مطروقة ولا مرغوبة من شعب الرب. فما هي وسائل الدفاع المشروعة التي لقطيع الرب في مواجهة الشر والشرير وأسلحتهم المتنوعة؟
لنا في كلمة الرب الدليل المشجع على أن القطيع السائر وسط وحوش البرية ليس منفصلاً عن القوة العليا المهيمنة والمتدخلة والمسيطرة، التي تأتي في الوقت المحدد وبالقوة المطلوبة لفرض النظام، حسب المرسوم الإلهي الصادر من إله كل نعمة.
وما جعل المُختبِر ينطق بهذه الكلمات القوية الواردة في إشعياء٨: ٩–١٠، هي معاملات الله عبر سنين كثيرة وهو يتدخل لنصرة شعبه جماعات وأفراد ويخلصهم بذراع قوية ويد ممدودة. ولنا بعض المشاهد الكتابية لتدخلات إلهية غاية في العظمة!
المشهد الأول: الخلاص من أرض المذلة بعصا وشخص أغلف الشفتين:
في أرض غريبة وتحت نير العبودية وملك شرير، ماذا يستطيع أن يعمل شعب الرب الأعزل والغريب؟
يقول الكتاب في خروج٢: «وَتَنَهَّدَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ وَصَرَخُوا، فَصَعِدَ صُرَاخُهُمْ إِلَى اللهِ مِنْ أَجْلِ الْعُبُودِيَّةِ. فَسَمِعَ اللهُ أَنِينَهُمْ». ويؤكد سفر الأعمال على هذه الحقيقة بقول الرب لموسى: «إِنِّي لَقَدْ رَأَيْتُ مَشَقَّةَ شَعْبِي الَّذِينَ فِي مِصْرَ، وَسَمِعْتُ أَنِينَهُمْ وَنَزَلْتُ لأُنْقِذَهُمْ. فَهَلُمَّ الآنَ أُرْسِلُكَ إِلَى مِصْر»َ (أعمال٧: ٣٤). وأرسل الرب موسى وهارون لإخراج الشعب، لكن تقسى قلب فرعون حاسبًا أن هذا الشعب الأعزل لن يقوى على الخروج من تحت يده، وكلما تقسى كانت يد الرب تثقل عليه بضربات أصابت أرض مصر، حتى رضخ صاغرًا أمام هيبة الرب وأخرج شعبه كما قال، والشعب الذي وصفه الكتاب المقدس بـ“أجناد الرب” خرج من مصر بغنيمة وافرة.
ولما كان فرعون يلاحق الشعب في البرية، قاتل الرب عن شعبه وأغرق فرعون وجنوده في لُجة البحر، مستخدمًا عصا موسى، وترنم الشعب في البرية مُسبحين الرب الذي خلصهم بذراعه وقوته ورأى الجميع قدرة وسلطان الله (خروج ١٥: ١-٣)
وليس ذلك فقط بل على مدى ٤٠ سنة في البرية، قاد الرب شعبه وحماهم وحفظهم إلى أن تملكوا ميراثهم الذي وعدهم به.
المشهد الثاني: الخلاص بحجر وفتى غض أشقر مع حلاوة العينين. (١صموئيل)
لم يكن العار الذي لحق بشاول وجنده بالأمر الهين على نفس الشعب الذي شعر بالمذلة على مدى ٤٠ يومًا من التعييرات، ولا على نفس الفتى الأشقر داود الذاهب للاطمئنان على إخوته في الحرب، وكان قد «خَرَجَ رَجُلٌ مُبَارِزٌ مِنْ جُيُوشِ الْفِلِسْطِينِيِّينَ اسْمُهُ جُلْيَاتُ، مِنْ جَتَّ، طُولُهُ سِتُّ أَذْرُعٍ وَشِبْرٌ... وَقَالَ الْفِلِسْطِينِيُّ: “أَنَا عَيَّرْتُ صُفُوفَ إِسْرَائِيلَ هذَا الْيَوْمَ. أَعْطُونِي رَجُلاً فَنَتَحَارَبَ مَعًا”. وَلَمَّا سَمِعَ شَاوُلُ وَجَمِيعُ إِسْرَائِيلَ كَلاَمَ الْفِلِسْطِينِيِّ هذَا ارْتَاعُوا وَخَافُوا جِدًّا». وأما هذا الفتى الذي اختبر أمانة الرب لم يخشَ كلمات هذا الفلسطيني الأغلف لا اعتمادًا على قوة داود لكن استنادًا على الله الذي يعرفه ويثق به. وبخمس حجارة ملساء وبمقلاع بسيط انتصر! «فَقَالَ دَاوُدُ لِلْفِلِسْطِينِيِّ: «أَنْتَ تَأْتِي إِلَيَّ بِسَيْفٍ وَبِرُمْحٍ وَبِتُرْسٍ، وَأَنَا آتِي إِلَيْكَ بِاسْمِ رَبِّ الْجُنُودِ إِلهِ صُفُوفِ إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ عَيَّرْتَهُمْ. هذَا الْيَوْمَ يَحْبِسُكَ الرَّبُّ فِي يَدِي، فَأَقْتُلُكَ وَأَقْطَعُ رَأْسَكَ. وَأُعْطِي جُثَثَ جَيْشِ الْفِلِسْطِينِيِّينَ هذَا الْيَوْمَ لِطُيُورِ السَّمَاءِ وَحَيَوَانَاتِ الأَرْضِ، فَتَعْلَمُ كُلُّ الأَرْضِ أَنَّهُ يُوجَدُ إِلهٌ لإِسْرَائِيلَ... فَتَمَكَّنَ دَاوُدُ مِنَ الْفِلِسْطِينِيِّ بِالْمِقْلاَعِ وَالْحَجَرِ، وَضَرَبَ الْفِلِسْطِينِيَّ وَقَتَلَهُ. وَلَمْ يَكُنْ سَيْفٌ بِيَدِ دَاوُدَ. فَرَكَضَ دَاوُدُ وَوَقَفَ عَلَى الْفِلِسْطِينِيِّ وَأَخَذَ سَيْفَهُ وَاخْتَرَطَهُ مِنْ غِمْدِهِ وَقَتَلَهُ وَقَطَعَ بِهِ رَأْسَهُ. فَلَمَّا رَأَى الْفِلِسْطِينِيُّونَ أَنَّ جَبَّارَهُمْ قَدْ مَاتَ هَرَبُوا».
لقد بنى جليات إستراتيجيته على ما يراه من ضعف وخوف في شعب الرب، وبنى داود إستراتيجيته على وعود صادقة واختبارات مجيدة مع رب يعرفه. كانت قوة جليات في جسده وسلاحه وأعداد جنوده وعتادهم. أما قوة داود ففي الوعد الصادق وفي اسم الرب المهوب، الذي هو ترسانة الفتى الصغير الذي يَعلم مَنْ هو إلهه وما هي قدرته!
المشهد الثالث: الخلاص بجرار فارغة.
كان المديانيون أعداء شديدي البغضة لإسرائيل وكثيري العدد والعتاد يريدون إذلال شعب الرب وتجويعه (قضاة٦). لكن إلهنا العظيم يختار من الشعب جدعون الذي لا يشعر في نفسه بالأفضلية أو الاستحقاق، اختار إناء هشًا ضعيفا: «فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ الرَّبُّ وَقَالَ: “اذْهَبْ بِقُوَّتِكَ هذِهِ وَخَلِّصْ إِسْرَائِيلَ مِنْ كَفِّ مِدْيَانَ. أَمَا أَرْسَلْتُكَ؟” فَقَالَ لَهُ جدعون: “أَسْأَلُكَ يَا سَيِّدِي، بِمَاذَا أُخَلِّصُ إِسْرَائِيلَ؟ هَا عَشِيرَتِي هِيَ الذُّلَّى فِي مَنَسَّى، وَأَنَا الأَصْغَرُ فِي بَيْتِ أَبِي”». لكن إله إسرائيل الساهر العظيم يستحسن أن يستخدم وسيلة بدائية لهزيمة جيشًا كبير بأعتدة وأسلحة، فماذا فعل الرب؟
لقد انتخب الرب ٣٠٠ محارب من أصل ٣٢٠٠٠ للذهاب «وَضَرَبَ الثَّلاَثُ الْمِئِينَ بِالأَبْوَاقِ، وَجَعَلَ الرَّبُّ سَيْفَ كُلِّ وَاحِدٍ بِصَاحِبِهِ وَبِكُلِّ الْجَيْشِ. فَهَرَبَ الْجَيْشُ إِلَى بَيْتِ شِطَّةَ، إِلَى صَرَدَةَ حَتَّى إِلَى حَافَةِ آبَلِ مَحُولَةَ، إِلَى طَبَّاةَ. فَاجْتَمَعَ رِجَالُ إِسْرَائِيلَ مِنْ نَفْتَالِي وَمِنْ أَشِيرَ وَمِنْ كُلِّ مَنَسَّى وَتَبِعُوا الْمِدْيَانِيِّينَ».
ثلاثمائة جندي مع جِرار فارغة ومصابيح، ماذا تصنع أمام جيش كبير؟ أليس هو صوت الرب الذي أزعج الأعداء وشدد أيدي شعبه. أبعد هذا تضطرب قلوبنا من الأعداء حولنا؟
هذه المشاهد الثلاثة وغيرها فقد يلزمنا الوقت لنتأمل خلاص الرب لدانيال من فم الأسود وللفتية من أتون النار ولحزقيا من جيش سنحاريب. والكثير جدًا من معاملات الله السامية التي تشدد أيادينا في رحلة البرية القاسية وتؤكد لنا.
نعم نطمئن لأننا لسنا بمتروكين ولا نحن مشاعًا للأشرار أو حتى الشياطين، فيد القدير ترعانا وتحرسنا ولن نصاب بأذى طالما التصقنا بسيدنا ووثقنا به. هذا امتيازنا.
لكن لا بد أن نراعى قداسة إلهنا وهيبته، سالكين خلفه باستقامة القلب وبالقداسة حتى لا نقع تحت طائلة التأديب الإلهي الذي تقتضيه قداسة الله وعدله وهذه مسؤوليتنا.