سباق الدرجات حول فرنسا، أو ”طواف فرنسا“ (Tour De France)، هو أشهر وأقسى سباق للدرجات في العالم. انطلق عام ١٩٠٣، ولا يزال يُنظَّم سنويًا خلال شهر يوليو. ”جيلبرت دوكلو لاسال“، أحد أشهر المتسابقين، وصف هذا السباق بـ”الجنون السنوي“، وقال: ”يُغطي السباق ما يُقارب الألفي ميل، ويمر ببعض أقسى وأصعب مناطق فرنسا الجبلية... وعلينا أن نأكل ونشرب خلال السباق... وكثيرًا ما كنا نتعرَّض لتغييرات في درجات الحرارة من منطقة إلى أخرى... ولكي أتدرّب على هذا السباق كان عليّ أن أقطع ما لا يقل عن ٢٢,٠٠٠ ميل في السنة“!
ولكن ما هي الجائزة التي لأجلها يحتمل بعض الناس أقسى درجات الألم والشدة والعذاب؟! هل من أجل ١٠,٠٠٠ دولارًا.. أو ١٠٠,٠٠٠؟! كلا، بل إنه أمر أروع من أن يُعبَّر عنه، هو الذي كان يحثّ المتسابقين على الاشتراك في ذلك السباق، وهو ما لخّصه ”جيلبرت لاسال“ بالقول: ”إنه شعور عجيب بالنصر يغمرك، ويُعطّر كيانك كله، عند مرورك تحت قوس النصر في قلب باريس، في اليوم الأخير من السباق، والإعلان بأنك الفائز أمام الملأ، على أساس أنك أنهيت السباق الشهير ”طواف فرنسا“!
يتكرر استعمال صورة الركض أو الجهاد (السباق) في الكتاب المقدس؛ فالرسول بولس في ١كورنثوس٩: ٢٤ يتكلَّم عن «
أَنَّ الَّذِينَ يَرْكُضُونَ فِي الْمِيدَانِ جَمِيعُهُمْ يَرْكُضُونَ وَلَكِنَّ وَاحِدًا (فقط)
يَأْخُذُ الْجَعَالَةَ؟». ولكن في جهادنا الروحي يستطيع الكل أن يصلوا إلى الغرض، والمكافأة هي نصيب كل واحد، ولن يخرج أحد صفرَ اليدين. لكن إن كان طريق المؤمن هو الجهاد، فإن عليه أن يُكمل الجهاد بنجاح. ولذلك يُحرضنا الرسول بالقول:
«هَكَذَا ارْكُضُوا لِكَيْ تَنَالُوا».
فإن كان متسابقو الدراجات أولئك مستعدّين للتعهّد والالتزام كليًا للقيام بذلك السباق، فكم هو أجدر بنا نحن أن نتبع الرب يسوع، وأن نكون مستعدين ومتفانين كليًا، لإكمال السعي الموضوع أمامنا، فيكون لسان حالنا
«أَكْمَلْتُ السَّعْيَ» (٢تيموثاوس٤: ٧)؟!
في العهد القديم نتقابل مع ”أَخِيمَعَص بْنُ صَادُوقَ“؛ الشاب الذي كان من بين الموالين لداود عندما تمرد عليه أبشالوم. وكان ”أَخِيمَعَصُ“؛ معروفًا بأنه عدَّاءٌ ماهر. ففي ٢صموئيل١٨: ٢٧ يُذكر أن الرقيب عرف من بعيد جريه كجري ”أَخِيمَعَص بْنُ صَادُوقَ“. كم هو جميل لو أن المرء يعرفنا من بعيد كمن نحن عدائو يسوع المسيح المهرة!
ونجد أولاً ”أَخِيمَعَص بْنُ صَادُوقَ“ مرتبطًا مع ”يُونَاثَانُ بْنُ أَبِيَاثَارَ“ كرسولين في عمل هام. كان عليهما أن ينقلا كل ما يسمعانه من حوشاي الأركي من بيت أبشالوم إلى داود (٢صموئيل١٥: ٣٦). وعليهما توقف أساسًا معرفة ما إذا كانت مشورة أخيتوفل قد أُبطلت فعلاً أم لا. وقد أثبت كلاهما جدارة في العمل؛ لقد جريا رغم كل الأخطار (٢صموئيل١٧: ١٥-٢٢). وقد حفظهما الرب وأنقذ داود وكل أتباعه.
وبعد انتهاء الثورة على داود بموت أبشالوم، ها هو ”أَخِيمَعَصُ“ يريد الآن أن يكون أول مَن يجري ليُبشر داود الملك بأخبار الانتصار. لقد خاطر بحياته قبلاً ليُحذره من خطر وشيك الحدوث (٢صموئيل١٧: ١٥-٢٢)، والآن لا يُريد أن يدع أحدًا آخر يصبح له امتياز إعلان الملك بانتصاره. ورغم العقبات، ورغم معارضة يوآب، فأَخِيمَعَص لا يريد أن يتعوّق في سعيه. وكيفما كانت النتيجة فقد أراد أن يكون الأول، ويسجد أمام الملك، للاعتراف بكرامة الملك داود التي عادت إليه ثانية. هذا هو مركز وسر قوته، إذ يرتبط بداود بقلب كامل، وكان أمامه فقط مجد داود.
لقد قال أَخِيمَعَصُ ليوآب:
«دَعْنِي أَجْرِ فَأُبَشِّرَ الْمَلِكَ، لأَنَّ اللهَ قَدِ انْتَقَمَ لَهُ مِنْ أَعْدَائِهِ» (٢صموئيل١٨: ١٩). ولاحظ كلمات ”أَخِيمَعَص“ وهو يُنسب الفضل كله لله، دون أي كلمات مجاملة أو تملق ليوآب قائد الجيش. إن تعلُّق قلب ”أَخِيمَعَص“ بداود دفعه إلى حمل هذه البشارة السارة إليه، إلا أن يوآب لم يوافق على ذهابه، وأمر كُوشِي أن يذهب، فركض (ع٢١). لكن أَخِيمَعَص عاد فطلب من يوآب أن يجري هو أيضًا، فأذن له، فركض الاثنان (ع٢٢). لكن ما أبعد الفرق! الواحد جرى بناءً على أمر، ولكن الآخر جرى من تلقاء الذات بقلب ملتهب. أَخِيمَعَصُ تغلب على المصاعب والعوائق من أجل السرور الموضوع أمامه، ليقف أمام داود كالشاهد لانتصاره. ولا عجب أن يسبق أَخِيمَعَصُ كُوشِي في الركض ليظهر أولاً أمام الملك.
ليتنا نجري مثل أَخِيمَعَص! ليتنا نجري لنُصبح أول مَن يأتي عند قدميّ ربنا المنتصر، ولا نسمح لأحد أن يسبقنا! قال أَخِيمَعَصُ:
«مَهْمَا كَانَ أَجْرِي... فَجَرَى أَخِيمَعَصُ فِي طَرِيقِ الْغَوْرِ وَسَبَقَ كُوشِيَ». ألا نقتدي بعبد داود هذا، حتى لا يسبقنا أحد في الجهاد! والرب يعلم هل في محبتنا له واشتياقنا إليه نركض في الميدان، أم أننا نركض لأنه الطريق المفروض علينا!
«لِذَلِكَ نَحْنُ أَيْضًا... لِنَطْرَحْ كُلَّ ثِقْلٍ، وَالْخَطِيَّةَ الْمُحِيطَةَ بِنَا بِسُهُولَةٍ، وَلْنُحَاضِرْ بِالصَّبْرِ فِي الْجِهَادِ الْمَوْضُوعِ أَمَامَنَا، نَاظِرِينَ إِلَى رَئِيسِ الإِيمَانِ وَمُكَمِّلِهِ يَسُوعَ» (عبرانيين١٢: ١، ٢).
ينبغي علينا – بمثابرة وصبر – ألا نتوقف عن الركض. لقد ابتدأ البعض بداية حسنة، لكنه لم يُكمل السعي. والرسول بولس يشكو متألمًا «دِيمَاسَ قَدْ تَرَكَنِي إِذْ أَحَبَّ الْعَالَمَ الْحَاضِر» (٢تيموثاس٤: ١٠). ويا لها من خسارة لمن كان مرة في الميدان! إننا لن نُكافَئ لمجرد دخولنا السباق، بل لإنهائنا إياه.
ولكن الرسول بولس، عندما علم أن أيامه أصبحت معدودة، صرّح - بثقة - قائلاً:
«قَدْ جَاهَدْتُ الْجِهَادَ الْحَسَنَ، أَكْمَلْتُ السَّعْيَ، حَفِظْتُ الإِيمَانَ، وَأَخِيرًا قَدْ وُضِعَ لِي إِكْلِيلُ الْبِرِّ، الَّذِي يَهَبُهُ لِي فِي ذلِكَ الْيَوْمِ، الرَّبُّ الدَّيَّانُ الْعَادِلُ» (٢تيموثاوس٤: ٧، ٨). لقد أكمل العمل الذي أوكله إليه الله، وكان يتوقع أن ينال من الرب ”إِكْلِيلُ الْبِرِّ“، مكافأة له على جهاده!
فيا ليتنا نقتدي بالرسول المغبوط الذي كان لسان حاله دائمًا:
«أَيُّهَا الإِخْوَةُ، أَنَا لَسْتُ أَحْسِبُ نَفْسِي أَنِّي قَدْ أَدْرَكْتُ. وَلَكِنِّي أَفْعَلُ شَيْئًا وَاحِدًا: إِذْ أَنَا أَنْسَى مَا هُوَ وَرَاءُ وَأَمْتَدُّ إِلَى مَا هُوَ قُدَّامُ، أَسْعَى نَحْوَ الْغَرَضِ لأَجْلِ جَعَالَةِ دَعْوَةِ اللهِ الْعُلْيَا فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ» (فيلبي٣: ١٣، ١٤).
أَمْشِي فِي النُّورِ كُلَّ الْحَيَاةِ
كُلُّ اتِّكَالِي عَلَى الْحَبِيبِ
أَمْشِي دَوَامًا مَعَ الْحَبِيبِ
يَسُوعُ آتٍ فَعَنْ قَرِيبِ
|
| تَابِعًا رَبِّي كُلَّ الطَّرِيقْ
مَنْ يُنَجِّينِي مِنْ كُلِّ ضِيقْ
أَسْعَى كَيْ أَحْظَى بِالْمُجَازَاهْ
عَلَى السَّحَابِ سَوْفَ أَرَاهْ
|