تعلمت القيادة (السواقة يعني) على كبَّر لأسباب كثيرة، وإذ بي أصطدم ليس فقط بعشوائية الناس ولا بتجاهل القانون (كله ينفع)، لكني اصطدمت بعقلي التحليلي الذي يراقب ويرصد (شغال علطول)، وقررت بدلاً من التذمر والتوتر (مفيش فايدة)، أن ألتقط بعض هذه الظواهر وأُخرِج منها بعض الدروس، لفائدتي أولاً ولفائدة قارئي العزيز ثانيًا (عزيز بجد).
٣- المرايات
من السهل لأي إنسان لم يجرِّب القيادة، أن يتجاهل أهمية المرايات
(جمع مرآة بالفُصحى
)، ويظن أنها من باب الوجاهة أو الزينة، أو لكي تضبط فيها المدام شكلها وأناقتها.
مع أن المرايات في غاية الأهمية، في أهمية الفرامل تمامًا، لأنها تضبُط كل حركة للسيارة؛ يمينًا ويسارًا، للأمام أو للخلف، وفي نفس الوقت تبين للسائق كل ما هو مطلوب لعدم الاصطدام بأي سيارة تجاوره أو تلحق به.
وبملاحظتي لدور المرايات في السيارة، استرعى انتباهي درسين روحيين هامين، أشاركك عزيزي القارئ بهما.
مدة النظر للمرآة:
من أشهر الأخطاء التي يرتكبها سائق السيارة الحديث، أنه يُطيل النظر في مرايات السيارة، وينشغل كثيرًا بالسيارات القادمة خلفه، للدرجة التي يجعله يتساءل: تُرى أين سيذهب صاحب السيارة البيضاء التي تلاحقني؛ هل سينعطف يمينًا أم يسارًا؟ هل سيتفادى ”المطب“ أم سيتعثر فيه؟
وقد يُطيل النظرة أكثر، فيحاول أن يعرف من الذي يرافق قائد السيارة البيضاء، وهل معه أطفال أم لا؟ وما إذا كان له سابق معرفة معه أم لا؟
وطبعًا هذا يستدعي الكثير من الثواني، التي تجعل السائق الأصلي ينشغل أكثر بالسيارات الآتية خلفه، وفي نفس الوقت يتجاهل أي أخطار مُفاجِئة (وما أكثرها في الشوارع المصرية) قد تواجه سيارته هو بلا إنذار.
وهنا الدرس الروحي الأول لنا، فعلينا ألا نُطيل النظر لحياة الآخرين؛ مهما كانوا خدامًا أو مرنمين أو أفاضل أو حتى خطاة، فالانشغال الزائد بهم سيضرنا لا محالة، حتى لو ظنناه انشغال إيجابي بأعمالهم وإنجازاتهم وخدمتهم، أو إنجاز سلبي بأخطائهم وسقطاتهم.
وهذا الخطأ يقع فيه الكثيرون، خصوصًا في أيامنا الحالية، فتكثر التقييمات (فلان انحرف، وعلان هرطق، وفلان ينتظر رحمة، وعلان لا بد من تأديبه)، وهكذا أخذنا مكان الله؛ فاحص القلوب والكُلى، الديان العادل، الذي وحده يعرف خفايا وأسرار قلوب الناس، ويحكم على دوافعهم الدفينة بلا مجاملة أو محاباة.
وهنا لا بد لنا من الانتباه، لنصيحة بولس الرسول إلى تلميذه تيموثاوس، فرغم أن بولس أشاد بموهبة تيموثاوس، وأوصاه أن يستخدمها لبنيان أفراد الكنيسة؛ الشيوخ والشباب والنساء، إلا أنه حذره قائلاً: «فَكِّرْ بِهذِهِ الأُمُورِ، مُنَاشِدًا قُدَّامَ الرَّبِّ أَنْ لاَ يَتَمَاحَكُوا بِالْكَلاَمِ. الأَمْرُ غَيْرُ النَّافِعِ لِشَيْءٍ، لِهَدْمِ السَّامِعِينَ.
اجْتَهِدْ أَنْ تُقِيمَ نَفْسَكَ ِللهِ مُزَكُى، عَامِلاً لاَ يُخْزَى، مُفَصِّلاً كَلِمَةَ الْحَقِّ بِالاسْتِقَامَةِ. وَأَمَّا الأَقْوَالُ الْبَاطِلَةُ الدَّنِسَةُ فَاجْتَنِبْهَا» (٢تيموثاوس٢: ١٤-١٦).
فعليك أن تهتم أولاً بنفسك، ولا تندمج في المحادثات التي لا تقود أبدًا إلى البنيان، ولكنها تقود دائمًا إلى تشويه الخدام وعثرة المخدومين، وتجعل المؤمن في صف الشيطان، الذي من مصلحته أن يشتكي أكثر على من يحمل كلمة الله (حتى لو أخطأ بالفعل)، لكي يقلل من مصداقية الكلمة، ويُبطل مفعولها في النفوس.
زاوية المرآة:
يقول خبراء قيادة السيارات، أن زاوية وضع المرايات (في اليمين أو اليسار)، يجب أن تكون بنسبة الثلث للثلثين؛ الثلث يُظهر أبعاد السيارة من الخلف، والثلثين يكشف الشارع والمرور والرصيف.
وبالمناسبة من المستحيل أن تكون زاوية المرآة واضحة ومضبوطة للسائق ولمن يجاوره أو لمن يجلس خلفه في نفس الوقت، لأن أماكن رؤيتهم للمرآة مختلفة، ولكن الأهم أن يسير السائق في طريقه غير مُبالٍ بانتقادات من يجلسون معه.
وهنا الدرس الروحي الثاني لنا، وهو من رسالة تيموثاوس الأولى هذه المرة، فمن الهام أن يكون للمؤمن مرآة تُمكنه من الرؤية المزدوجة، فمن جانب يرى نفسه فيها، ومن جانب أخر يرى الدعوة التي يتممها، والتعليم الذي يتبعه، ويختبر صحته بين الحين والآخر.
وأرى أن هذا ما قصده بولس الرسول، وهو يقول لتلميذه تيموثاوس:
«لاَحِظْ نَفْسَكَ وَالتَّعْلِيمَ وَدَاوِمْ عَلَى ذلِكَ، لأَنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ هذَا، تُخَلِّصُ نَفْسَكَ وَالَّذِينَ يَسْمَعُونَكَ أَيْضًا» (١تيموثاوس٤: ١٦)، فمن الأهمية الشديدة أن يقيس الإنسان نفسه يوميًا على مقياس كلمة الله، ويسمح لشخص الله الروح القدس أن يعطيه نورًا جديدًا فيها، ولا يفرض عليه قوالب جامدة وقديمة تُحد من جمال وتأثير كلمة الله الحية والفعالة والعابرة للزمن.
عزيزي القارئ، لا يمكن أن تسير في دعوتك وخدمتك وطريقك المستقيم وأنت تنظر إلى الوراء وتنشغل بغيرك، مهما كان، وإلا سيتعرج طريقك رغمًا عنك.
وفي نفس الوقت لا يمكن أن تقيس نفسك على نفسك، أو تقيس نفسك على آخر، لكنك تحتاج لنور كلمة الله الذي قد يفضحك ولكنه يرشدك، والأهم أنه ينبهك لأي حفرة خطيرة قد تظهر في طريقك وأنت لم تراها بسبب انشغالك بمن يسير حولك.
فادي كيرلس