كان سبعة من التلاميذ مجتمعين معًا في الجليل، ينتظرون رؤية الرب يسوع المقام من الأموات، فقال بطرس:
«أَنَا أَذْهَبُ لأَتَصَيَّدَ»، وكأنه يهرب من مسؤولية الخدمة، فوجد الاقتراح تجاوبًا سريعًا من بقية التلاميذ، فقَالُوا لَهُ: «نَذْهَبُ نَحْنُ أَيْضًا مَعَكَ. فَخَرَجُوا وَدَخَلُوا السَّفِينَةَ لِلْوَقْتِ». رجع بطرس إلى صيد السمك، بسبب شعوره بالفشل، بعد أن أنكر الرب ثلاث مرات، وأنه لا يصلح أن يكون رسول يسوع المسيح.
«وَفِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ لَمْ يُمْسِكُوا شَيْئًا»: أي ليلة عقيمة بلا ثمر، وقصد الرب هذا، ليختبروا فشلهم، وأن أي خطوة بدونه مصيرها الفشل (يوحنا٢١: ٣).
«وَلَمَّا كَانَ الصُّبْحُ، وَقَفَ يَسُوعُ عَلَى الشَّاطِئِ. وَلكِنَّ التَّلاَمِيذَ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ يَسُوعُ»، لأنهم كانوا مشغولين بصيد السمك، والحصول على أعوازهم الزمنية، وليس انتظارًا للرب.
«فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: يَا
غِلْمَانُ أَلَعَلَّ عِنْدَكُمْ إِدَامًا؟ أي هل عندكم ما يُؤكل؟ أَجَابُوهُ: «لاَ!»، وهي إجابة مختصرة تعبر عن فشلهم. «فَقَالَ لَهُمْ:
أَلْقُوا الشَّبَكَةَ إِلَى جَانِبِ السَّفِينَةِ الأَيْمَنِ فَتَجِدُوا»، أمر الرب السمك أن يتجمع على جانب السفينة الأيمن، كما أمر قبل ذلك السمك الكثير أن يدخل شبكة بطرس (لوقا٥)، وأمر سمكة في فمها إستارًا لتذهب لصنارة بطرس (متى١٧: ٢٧)، وهذا يرينا لاهوت المسيح وسلطانه.
نجد عناية الرب بتلاميذه، لقد رجعوا من البحر بملابسهم المُبللة، ويعانون من البرد، فوجدوا الجمر للتدفئة، وكانوا جائعين فوجدوا وجبة شهية مُعدة - الخبز والسمك. عندما ظهر لهم الرب تحول فشلهم إلى نجاح، وجوعهم إلى شبع وبردهم إلى دفء.
«قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: قَدِّمُوا مِنَ السَّمَكِ الَّذِي أَمْسَكْتُمُ الآنَ. فَصَعِدَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ وَجَذَبَ الشَّبَكَةَ إِلَى الأَرْضِ، مُمْتَلِئَةً سَمَكًا كَبِيرًا، مِئَةً وَثَلاَثًا وَخَمْسِينَ»، أظهر بطرس طاعة فورية للرب يسوع.
«فَبَعْدَ مَا تَغَدَّوْا قَالَ يَسُوعُ لِسِمْعَانَ بُطْرُسَ: يَاسِمْعَانُ بْنَ يُونَا، أَتُحِبُّنِي أَكْثَرَ مِنْ هؤُلاَءِ؟ قَالَ لَهُ: نَعَمْ يَارَبُّ أَنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّكَ. قَالَ لَهُ: ارْعَ خِرَافِي».
يعتبر لقاء الرب مع بطرس على بحيرة طبرية من اللقاءات المؤثرة في الكتاب المقدس، ولقد بدا الرب كلامه مع بطرس ليرد نفسه بعد أن تغدوا، ويجب أن نتعلم هذا الأمر، فقبل أن نعالج أمر معين في أحد القديسين لا بد أن نظهر المحبة العملية أولاً.
نلاحظ أن الرب لم يسأله لماذا أنكرتني، لكن «أَتُحِبُّنِي؟»، لأن الرب يعمل على علاج المشكلة من جذورها.
كان بطرس لديه مشكلتين على الأقل: الأولى أنه كان يظن أنه أفضل من بقية التلاميذ، والثانية: أنه كان لديه ثقة شديدة في نفسه من جهة محبته للرب.
«قَالَ يَسُوعُ لِسِمْعَانَ بُطْرُسَ: يَاسِمْعَانُ بْنَ يُونَا
أَتُحِبُّنِي أَكْثَرَ مِنْ هؤُلاَءِ؟» كان
بهذا السؤال يعالج المشكلة الأولى. «قَالَ لَهُ: نَعَمْ يَارَبُّ أَنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّكَ
». في اللغة اليونانية تأتي المحبة بأكثر من كلمة، استخدم الرب منها اثنتين هنا:
أجابي: وتعني المحبة الإلهية (يوحنا٣: ١٦).
فيليو: وتعني محبة الصديق لصديقه (متى٥: ٤٦).
في سؤال الرب الأول لبطرس استخدم كلمة المحبة أجابي، أي هل يا بطرس تحبني المحبة العميقة؟ بينما في إجابة بطرس استخدم كلمة المحبة فيليو، وتعني المَعَزة والمودة، لقد عرفت حقيقية نفسي، وأنت كلي العلم والمعرفة، وهنا نرى الانكسار والانسحاق في قوله.
سُر الرب بإجابة بطرس، وكلَّفه برعاية خرافه،
«ارْعَ خِرَافِي». في البداية كلَّفه الرب بصيد النفوس (لوقا٥: ١٠)، والآن يكلَّفه بمهمة جديدة وهي رعاية الغنم، ويا له من شرف عظيم.
سأل الرب سمعان
ثانية: أَتُحِبُّنِي؟ بالمحبة الإلهية (أجابي)، دون أن يقارن محبته ببقية التلاميذ، وكأنه يقول له: هل لديك حب حقيقي لي؟ وهنا مس الألم نفسه بدرجة أعمق، ومرة ثانية عجز بطرس عن أن يدافع عن نفسه، وأجاب نفس الإجابة السابقة، «نَعَمْ يَارَبُّ، أَنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّكَ. قَالَ لَهُ: ارْعَ غَنَمِي».
سأل الرب سمعان
ثالثة: «يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، أَتُحِبُّنِي؟» بالمحبة الإنسانية (فيليو)، أي هل تحبني كصديق؟ وبهذا وصل الرب إلى أعماق الجرح الداخلي، «فَحَزِنَ بُطْرُسُ لأَنَّهُ قَالَ لَهُ ثَالِثَةً: أَتُحِبُّنِي؟»، لكنه ألقى بنفسه بالكامل على الرب، فَقَالَ لَهُ:
«يَا رَبُّ، أَنْتَ تَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ. أَنْتَ تَعْرِفُ أَنِّي أُحِبُّكَ»، وكأنه يريد أن يقول للرب إن محبتي لك ضعيفة جدًا لدرجة أن لا أحد يستطيع أن يراها أو يلمسها إلا أنت الذي تعلم كل شيء، وبذلك يكون قد طرح ثقته في نفسه جانبًا.
قَالَ لَهُ يَسُوعُ: ارْعَ غَنَمِي، يؤكد الرب للمرة الثالثة على أهمية الرعاية، ونعلم أن كثير من الذين استخدمهم الرب كانوا رعاة غنم بالمعنى الحرفي.
سأل الرب بطرس ثلاث مرات، وهذا ذَّكره بإنكاره ثلاث مرات، لكنه أيضًا أعلن أمام الجميع ثلاث مرات أنه يحب الرب.
سأل الرب أهم سؤال، عن المحبة؛ وسمع من بطرس أعظم إجابة، أني أحبك؛ وكلَّفه بأعظم تكليف، هو الرعاية.
أي عمل يُعمل ليس بدافع المحبة لا قيمة له، لأن الله يبحث عن المحبة الحقيقية (نشيد٨: ٧).
الرعاية تشمل تقديم الطعام والماء للغنم، والقيادة، والحماية، ورد الضال، وعلاج المكسور، وتقوية المريض، واسترداد المطرود، وعصب الجريح، وإجراء العدل بينهم (حزقيال٣٤: ١٥-١٧).
نجد أن بطرس ليس فقط كان
مبشرًا - صيادًا للنفوس، بل أيضًا
راعيًا (أعمال٩: ٣٢)، وكان أيضًا
معلمًا، لأن الرب قال له ثَبّت إخوتك، وهذا يتم عن طريق التعليم.
الرب بنعمته المتفاضلة قام بسبعة أعمال لرد نفس بطرس:
حذَّره (لوقا٢٢: ٣١)، طلب من أجله (لوقا٢٢: ٣٢)، نصحه (لوقا٢٢: ٤٦)، نظر إليه مباشرة بعد إنكاره (لوقا٢٢: ٦١)، بعد قيامته أرسل له رسالة مع النساء (مرقس١٦: ٧)، بعد قيامته ظهر له على انفراد (لوقا٢٤: ٣٤؛ ١كورنثوس١٥: ٥)، تقابل معه على بحيرة طبرية، في حضور ستة من التلاميذ (يوحنا٢١).
إنه شيء مُعزٍّ ومُبهج أن الصِدِّيق «إِذَا سَقَطَ لاَ يَنْطَرِحُ، لأَنَّ الرَّبَّ مُسْنِدٌ يَدَهُ» (مزمور٣٧: ٢٤)، وها الرب بنفسه تدخل وأمسك بيد بطرس ورد نفسه، فيستطيع أن يقول مع آساف: «أَمْسَكْتَ بِيَدِي الْيُمْنَى» (مزمور٧٣: ٢٣).
بحق ما أروع إلهنا العظيم، الراعي المحب الذي يرد النفس، ويعالج الداء الدفين الذي فينا، فتثق فيه، ولا نتكل على أنفسنا، وهو قادر أن يصنع أمورًا عظيمة فينا وبنا..
وللحديث بقية ...