بعد صعود الرب يسوع إلى السماء، أوصى تلاميذه ألا يبرحوا من أورشليم، بل ينتظروا موعد الآب، وهو مجيء الروح القدس. وأطاع التلاميذ الأحد عشر وصية الرب لهم: «فرَجَعُوا إِلَى الْعِلِّيَّةِ الَّتِي كَانُوا يُقِيمُونَ فِيهَا»، وفي فترة العشرة أيام من صعود الرب إلى السماء ومجيء الروح القدس كان الرسل ومن معهم يواظبون على الصلاة.
كانت خيانة يهوذا الإسخريوطي للرب، ثم موته تلك الميتة البشعة، سبب حزن لكل التلاميذ. ولكن بعد أن رد الرب نفس بطرس، رجع لدوره القيادي، وتكلم أن ما حدث من يهوذا ومعه كان طِبقًا للمكتوب، ولا بُد من اختيار شخص آخر ليحل محله، بحسب المكتوب. اقتبس بطرس من مزمورين: ٦٩؛ ١٠٩، وجميل أن نرجع دائمًا إلى المكتوب، لنعرف «مَاذَا يَقُولُ الْكِتَابُ؟» (رومية٤: ٣؛ ١١: ٢؛ غلاطية٤: ٣٠).
بالتأكيد وجدوا تعزية قوية عندما اكتشفوا من كلمة الله أن ما عمله هذا الخائن كان معروفًا مُسبقًا، ومُسجلاً في الكلمة الإلهية. قد تكون الحوادث مُظلِمَة ومؤلمة، لكن ينبغي أن نثق في الله الذي يُمسك بزمام الأمور.
قال الرب لبطرس: «وَأَنْتَ مَتَى رَجَعْتَ ثَبِّتْ إِخْوَتَكَ» (لوقا٢٢: ٣٢)، لذلك بدأ بطرس في تنفيذ هذا التكليف من الرب.
نلاحظ في كلام بطرس حكمةً وتمييزًا وفهمًا للمكتوب، لأن الرب بعد القيامة فتح ذهن التلاميذ «لِيَفْهَمُوا الْكُتُبَ» (لوقا٢٤: ٤٥).
قال الرب للتلاميذ: «مَتَى جَلَسَ ابْنُ الإِنْسَانِ عَلَى كُرْسِيِّ مَجْدِهِ، تَجْلِسُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ كُرْسِيًّا تَدِينُونَ أَسْبَاطَ إِسْرَائِيلَ الاثْنَيْ عَشَرَ» (متى١٩: ٢٨)، لذلك فَهْمَ التلاميذ أن عدد الرسل ينبغي أن يكون اثني عشر، ليشهدوا عن قيامة المسيح لأسباط إسرائيل الاثني عشر، وفي المستقبل للدينونة.
بدأ بطرس كلامه: «أَيُّهَا الرِّجَالُ الإِخْوَةُ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَتِمَّ هذَا الْمَكْتُوبُ الَّذِي سَبَقَ الرُّوحُ الْقُدُسُ فَقَالَهُ بِفَمِ دَاوُدَ، عَنْ يَهُوذَا»، أي لا داعي أن ينزعج أحد مما حدث، لأن ما عمله يهوذا، لم يفسد خطة الله، بل تممها.
تكلما بطرس ولوقا كاتب سفر الأعمال، في هذا الجزء، بعدة عبارات عن يهوذا:
١. «الَّذِي صَارَ دَلِيلاً لِلَّذِينَ قَبَضُوا عَلَى يَسُوعَ»: هذه هي الخيانة، إذ تحالف مع أعداء المسيح، وباع سيده، وأرشد عن مكانه.
٢. «إِذْ كَانَ مَعْدُودًا بَيْنَنَا»: كان ليهوذا شرف عظيم أن يكون واحدًا من الاثني عشر تلميذًا، لكنه لم يُقَدِّرهُ.
٣. «وَصَارَ لَهُ نَصِيبٌ فِي هذِهِ الْخِدْمَةِ»: كان يخدم مثل بقية التلاميذ، ولكنه لم يكُن مولودًا من الله؛ وقد أشار الرب إلى ذلك: «لَيْسَ كُلُّ مَنْ يَقُولُ لِي: يَارَبُّ، يَارَبُّ! يَدْخُلُ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ... اذْهَبُوا عَنِّي يَا فَاعِلِي الإِثْمِ!» (متى٧: ٢١-٢٣).
٤. «فَإِنَّ هذَا اقْتَنَى حَقْلاً مِنْ أُجْرَةِ الظُّلْمِ»: يهوذا لم يشتَرِ الحقل، لكن اشتراه رؤساء الكهنة (متى٢٧: ٦، ٧)، ولأن ثمن الشراء دُفع من ماله، فصار هو المُشتري، أي تصرفوا كوكلاء عنه.
٥. «وَإِذْ سَقَطَ عَلَى وَجْهِهِ»: لقد شَنَق نفسه بحَبلِ على شجرة، ومات، وعلى الأرجح بعد ذلك انقطع الحبل، أو ربما انكسر غصن الشجرة التي كان مُعلقًا عليها، فسقط على وجهه.
٦. «انْشَقَّ مِنَ الْوَسْطِ»: قَصَدَ الله أن يحدث هذا مع يهوذا، لأن المبدأ الإلهي: «وَالَّذِينَ يَحْتَقِرُونَنِي يَصْغُرُونَ» (١صموئيل٢: ٣٠).
٧. «فَانْسَكَبَتْ أَحْشَاؤُهُ كُلُّهَا»: وبالتالي مات بطريقه مُشِيِنة ومُهِينة، وهذا حدث مع بعض الأشرار، والذين زاد شرهم وعدائهم للرب؛ فإيزابل الملكة الشريرة أكلتها الكلاب (١ملوك٢١: ٢٣؛ ٢ملوك٩: ٣٧)، وهيرودس الملك صَارَ «يَأْكُلُهُ الدُّودُ وَمَاتَ» (أعمال١٢: ٢٣).
٨. «لِتَصِرْ دَارُهُ خَرَابًا»: في مزمور٦٩ يقصد أعداء المسيح، ولكن طَبَقَهَا بطرس على يهوذا الإسخريوطي بسبب خيانته للرب.
٩. «وَلاَ يَكُنْ فِيهَا سَاكِنٌ»: طَبَقَهَا أيضًا بطرس على يهوذا الإسخريوطي.
١٠. «وَلْيَأْخُذْ وَظِيفَتَهُ آخَرُ»: من مزمور١٠٩: ٨، فَهَمَ بطرس أن وظيفة يهوذا لا بُد أن يأخذها آخر، فلا يظُن العدو أنه قد انتصر.
١١. «الْخِدْمَةِ وَالرِّسَالَةِ الَّتِي تَعَدَّاهَا»: بالأسف لم يكُن هدفُه مجد المسيح وإكرامه، لكن المال، وبذلك سقطت رسالته، وانتهت خدمتهُ.
١٢. «لِيَذْهَبَ إِلَى مَكَانِهِ»: أي ذهب إلى نهايته الأبدية المُرعبة، وأعتقد أن بطرس قالها بحزن شديد، على نهاية واحد من الاثني عشر.
في ضوء كلمة الله بيَّن بطرس للتلاميذ ضرورة أن يَحِل آخر مَحَل يهوذا، وكانت رغبتهم واضحة في تتميم مشيئة الله المُعلنة في كلمته، ولذلك وضع شرطًا وتكليفًا:
فالشرط أن يكون قد رأى المسيح ومعجزاته العظيمة، وسمع أقواله المُبَارَكة، «مُنْذُ مَعْمُودِيَّةِ يُوحَنَّا إِلَى الْيَوْمِ الَّذِي ارْتَفَعَ فِيهِ إلى السماء».
والتكليف أن يكون قادرًا على حمل مسؤولية الشهادة عن قيامة المسيح، وارتفاعه إلى السماء.
فَأَقَامُوا اثْنَيْنِ: «يُوسُفَ الَّذِي يُدْعَى بَارْسَابَا الْمُلَقَّبَ يُوسْتُسَ، وَمَتِّيَاسَ» لقد انطبق الشرط الذي ذكروه على هذين الاثنين، وكانا متساويان في كل شيء.
احتاجوا لمعرفة فكر الرب في مَن مِن الاثنين هو الذي يريده الرب؟ لذلك لجأوا إلى الصلاة.
وَصَلَّوْا قَائِلِينَ: «أَيُّهَا الرَّبُّ الْعَارِفُ قُلُوبَ الْجَمِيعِ، عَيِّنْ أَنْتَ مِنْ هذَيْنِ الاثْنَيْنِ أَيًّا اخْتَرْتَهُ، لِيَأْخُذَ قُرْعَةَ (نصيب) هذِهِ الْخِدْمَةِ وَالرِّسَالَةِ الَّتِي تَعَدَّاهَا يَهُوذَا لِيَذْهَبَ إِلَى مَكَانِهِ». اتحدوا معًا في الصلاة للرب وكانت الصلاة قصيرة وهدفها مُحدَّد. نتعلم من الرسل أن نُصلي كثيرًا، ولا سيما قبل المصادقة على اختيار شخص لخدمة مُعَيَنة، مثل التفرغ لخدمة الإنجيل. وبعد الصلاة ألقوا قُرْعَتَهُمْ «فَوَقَعَتِ الْقُرْعَةُ عَلَى مَتِّيَاسَ، فَحُسِبَ مَعَ الأَحَدَ عَشَرَ رَسُولاً». كان مسموحًا في العهد القديم استخدام القرعة، مكتوب: «الْقُرْعَةُ تُلْقَى فِي الْحِضْنِ، وَمِنَ الرَّبِّ كُلُّ حُكْمِهَا» (أمثال١٦: ٣٣؛ ١٨: ١٨).
استخدم التلاميذ القُرعة في اختيار متياس، لأن الروح القدس لم يكُن قد جاء بعد، ولكن بعد مجيء الروح القدس نجدهم لم يستخدموها (أعمال١٣: ١-٣). لكن نعرف فكر الرب من خلال الشركة العميقة مع الرب وقيادة الروح القدس. صَادَقَ الروح القدس على متياس، لأن الرسل من ذلك الوقت فصاعدًا سُموا الاثنا عشر (أعمال٦: ٢).
نلاحظ أن الرسل مع بقية المؤمنين قد استرشدوا بثلاثة أمور لاختيار بديل عن يهوذا: كلمة الله والصلاة والقُرعة، أي وجدوا في الكلمة المشورة، وفي الصلاة المعونة، وفي القرعة الاختيار. أما نحن الآن فلنا أيضًا ثلاثة أمور نسترشد بها وهي: كلمة الله والصلاة والروح القدس.
وللحديث بقية