القناعات هي حزمة الأفكار التي نُسلِّم بصحتها، وهي تنشأ في العقل الواعي وتُختزن في اللاوعي حيث نأخذ مُجمل قررات حياتنا. وإما أن تكون هذه القناعات داعمة أو مقيِّدة لنا؛ لذا علينا أن نفتش في قناعاتنا باستمرار. فغرس قناعة يُنتج فعلاً، كذلك مداومة الفعل يحصد عادة، وبتكرار العادات تنبت الشخصية، وهذا ما سوف نجتهد أن نفحصه في رحلتنا في عقل رجل من عظماء التاريخ البشري وهو إبراهيم “أبو المؤمنين” (رومية٤: ١١، ١٦).
لقد كانت أفعال حياته سبب حيرة لي ولكثير ممَنْ تابعوه. فكيف لرجل أن يخرج وهو لا يعلم إلى أين يأتي؟ وحينما أتى، كيف قَبَلَ أن يكون غريبًا في أرض مُوعود بها؟ وحينما وُعدَ بالإنجاب لم يكن يعلم كيف سينجب إذ كان بيولوجيا مائتًا؟ بل وقمة الحيرة في تصرفه أن يقبل تقديم وحيده إسحاق على المذبح دون أن يسأل لماذا؟!
أشعُر بك عزيزي بدأت تتعجب معي، وهذا ما أرجوه لتدخل في تحدٍ معي لنغوص ونبحث في رفوف عقله؛ لنستخلص من حياته فيما سجله الكتاب تلك القناعات التي قادته للأفعال هذه، ومن ثم شكَّلت شخصية لُقبت من فم الرب نفسه «إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِي» (إشعياء٤١: ٨).
أولاً: الوطن
كان أبرام ساكنًا في أور الكلدانين - وتقع جنوب العراق وكانت عاصمة للدولة السومرية وهي واحدة من أقدم الحضارات - (أعمال٧: ٢). وهناك مات هاران أخيه، ولكنه تحرك مع عائلته قرابة ١٢٠٠ كم، وجاؤوا إلى حاران حيث مات تارح أبوه. وهناك جدَّد الرب دعوته (تكوين١٢: ١)، فتحرك مع لوط إلى أرض كنعان قاطعًا أكثر من ٥٠٠ كم. ولما وصل يقول الكتاب: «تَغَرَّبَ فِي أَرْضِ الْمَوْعِدِ كَأَنَّهَا غَرِيبَةٌ»، وأيضًا يبتغي وطنًا أفضل (عبرانيين١١: ٨-١٦). فكنت أظن أن بوصوله إلى كنعان سيعلن أنه الوطن المنشود! بل وأكثر من ذلك سكن الخيام مُعلِنًا أنه غريب ونزيل، بل وبدأ ينتظر مدينة صانعها الله ويبتغي وطنًا أفضل جنسيته سماوية. يا له من إدراك عميق فَطن له إبراهيم أن الحياة هنا على الأرض غربة، والوطن هو عند الرب في الأبدية، فلم يهتم كثيرًا بشكل الخيمة محل إقامته إذ هي رفيقة تغربه وستُخلع قريبًا.
عزيزي قناعة مثل هذه أعتقد أنها تغير كثيرًا في كيفية إدارة حياتنا، إذا تمثلنا بأبي المؤمنين في نظرته للوطن والتي انعكست على نظرته لواقعه الذي يحياه. ولعله عكس الكثيرون اليوم من راغبي الهجرة إلى بلاد الحضارة، فهو خرج من أرض العبادات الوثنية، مضحيًا برفاهية التقدم والحضارة، لمجرد أن يطيع صوت الرب، وكان وقتها لا يعلم أين سيأتي لكنه كان يعلم مع مَنْ يذهب.
وهناك أظهر عيشة الغريب الذي لا يبني لنفسه في أرض الغربة؛ لأنه سيرجع وطنه في يوم قادم فيتركه. فأكتفى أن ينصب لنفسه خيمة، وأما للرب فبنى مذبحًا. فعلى الغريب أن يبني للرب لكي يُكافأ منه في الوطن الأبدي، ولا تكن حياته لنفسه مثل لوط الذي بنى لنفسه بيت ففقده في يوم لاحق. أُشجعك أن تتعامل مع حياتك على أنها غربة ويومًا ستنتهي. فلنجتهد أن نبني للرب ونكون في حالة الاستعداد «أَنْ نَتَغَرَّبَ عَنِ الْجَسَدِ وَنَسْتَوْطِنَ عِنْدَ الرَّبِّ، لِذَلِكَ نَحْتَرِص... أَنْ نَكُونَ مَرْضِيِّينَ عِنْدَهُ» (٢كورنثوس٥: ٨-٩).
ثانيًا: الثقة
حينما يُلقّب الكتاب إبراهيم أنه أب لكل مَنْ يؤمن، فلا بد أن نقف عند قناعة هذا البطل من جهة الإيمان والثقة، وهل نال كل ما وعده الرب به في حياته أم لا؟
لقد تضمن وعد الرب له أربعة أمور: النسل، الأرض، الأمة، البركة. ولاحِظ معي ما ناله في حياته؛ فقد نال النسل ولكن لم يرَ الأمة. صار بركة متمتعًا بعناية الرب، ولكنه تغرب في الأرض فلم ينَل المواعيد كلها في حياته؛ ليس لأن الله حرمه بل لأنها مرتبطة بمقاصد الله في الزمن، فلن تتم كاملة الإ في نهاية الزمان في الأرض (رؤيا٢١). ولذا فالثقة تنظر لشخص الله أولاً صاحب السيادة وتثق في حكمته، بل وتنتظر توقيته. فهو أخذ الوعد بالنسل وليتحقق في إسحاق انتظر ٢٥ سنة! يا له من تدريب شاق. ولكن إبراهيم آمن بالله (تكوين١٥: ٦)، «ووَتَيَقَّنَ أَنَّ مَا وَعَدَ بِهِ هُوَ قَادِرٌ أَنْ يَفْعَلَهُ أَيْضاً فهو يُحْيِي الْمَوْتَى وَيَدْعُو الأَشْيَاءَ غَيْرَ الْمَوْجُودَةِ كَأَنَّهَا مَوْجُودَةٌ» (رومية٤: ٢١، ١٧)، فهو لم يرتَب في وعد الرب وأيضًا سارة مثله حسبت الذي وعد صادقًا (عبرانيين١١:١١).
يا لها من عائلة سعيدة لأنها وضعت ثقتها في الله الصادق الذي يفي إذا وَعَدَ، وذلك لأنه القدير؛ فليس عنده مستحيل. فهل وضعت ثقتك فيه؟ أشجعك أن تستأمنه على حياتك الأبدية بقبولك إياه مخلِّصًا شخصيًا وأيضًا على حياتك الزمنية؛ فهو أمين وصادق وليس أمامك إلا طريق واحد سلك فيه أبونا ابراهيم وهو الإيمان والذي “بِدُونِه لاَ يُمْكِنُ إِرْضَاء الله”. فالإيمان هو التليسكوب الذي يجسِّد مواعيد الله غير المنظورة ويجعلها يقين لا يتزعزع سواء كانت زمنية أم أبدية.
لاحظ معي لم تكن ثقة أبينا إبراهيم كتسمية الناس “ثقة عمياء” بل “ثقة ترى” ما لا يراه العيان وترجو بخلاف ما يراه العيان. فالعيان يرى جسد إبراهيم وقد شاخ وسارة وقد فنيت ومات رحمها (تكوين١٨: ١٢)، والإيمان يَرَى وعد الله أنه بسارة يُدعى لك نسل (تكوين١٧: ١٩). فكيف تصرف؟ لقد وثق في الرب وأطاع طلب الرب أن يغيّر اسمه من أبرام “أب رفيع” لإبراهيم “أب لجمهور عظيم” واسم زوجته من ساراي “أميرتي” إلى سارة “الأميرة الملكية التي منها يخرج الملوك”، بل واختتن في ذلك اليوم طاعة لله وعلامة لختم البر بالإيمان.
صديقي هل استطعت ولو لقليل أن تجاوب معي عن غرابة سلوكيات في حياة إبراهيم؟ فكيف خرج مع الله دون أن يعلم؟ وكيف وثق في الله دون أن ينظر إلى ضعف جسده؟ الإجابة هي قناعات أسَّسها الإيمان في عقل إبراهيم وليس إلا.
وإلى أن أستكمل في حديث قادم رحلتي معك في أعماق قناعات إبراهيم، أتركك مصليًا للرب أن يمنحك قوة لتراجع قناعات حياتك في مجملها، وتحديدًا فيما أسلفنا من حيث الوطن الأفضل والثقة في الرب. واضعًا أيضًا سؤال نفكر في إجابته سويًا: كيف قبل تقديم وحيده إسحق على المذبح دون أن يسأل الرب لماذا؟!
(يُتبع)