عمل المستقيم ، ولكن 4

تأملنا في المرات السابقة في حياة شاول الذي سبق داود في مُلكه والثلاثة ملوك الذين جاءوا بعده، والذين عملوا الشر في عيني الرب. والآن نبدأ جولة سريعة في حياة خمسة ملوك عملوا المستقيم في عيني الله، ولكنهم لم يصلوا لمقياس الله “كداود أبيهم”، محاولين أن نفهم لِمَا لم يصلوا لهذا المقياس؟ وهو الغرض من هذه السلسلة.

رابعًا، بالمقارنة مع الملك يهوشافاط

كان يهوشافاط واحدًا من أتقى الملوك إذ كان لديه تقدير خاص لكلمة الله والصلاة. ولقد ابتدأ بداية حسنة سائرًا في طُرق داود أبيه الأولى وهيأ قلبه لطلب الله، فتقوّى قلبه في طرق الرب. «وَكَانَ الرَّبُّ مَعَ يَهُوشَافَاطَ لأَنَّهُ سَارَ فِي طُرُقِ دَاوُدَ أَبِيهِ الأُولَى، وَلَمْ يَطْلُبِ الْبَعْلِيمَ، وَلكِنَّهُ طَلَبَ إِلهَ أَبِيهِ وَسَارَ فِي وَصَايَاهُ لاَ حَسَبَ أَعْمَالِ إِسْرَائِيلَ» (٢أخبار١٧: ٣، ٤).

«وَسَارَ فِي طَرِيقِ أَبِيهِ آسَا وَلَمْ يَحِدْ عَنْهَا إِذْ عَمِلَ الْمُسْتَقِيمَ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ. إِلاَّ أَنَّ الْمُرْتَفَعَاتِ لَمْ تُنْتَزَعْ» (٢أخبار٢٠: ٣٢، ٣٣).

ورغم أنه بدأ السير في الطريق المستقيم كأبيه آسا، إلا أن قرارًا واحدًا خاطئًا اتخذه يهوشافاط تسبّبَ في انحرافه عن هذا الطريق، القرار الذي لم يتسبب في معاناته وحده، بل ظلت كل مملكة يهوذا تعاني من بعده لمدة ١٥عامًا! ولم يكن هذا القرار سوى أن يهوشافاط صَاهَرَ أَخْآبَ! (٢أخبار١٨: ١).

فلقد اتخذ يهوشافاط عثليا ابنة آخاب وإيزابل زوجة لابنه يهورام، والذي عانت بمُلكه المملكة ثمانِ سنوات، ثم سنة واحدة بمُلك حفيده أخزيا، وبعدها ست سنوات عُنونت بهذا العنوان الشائن «وَعَثَلْيَا مَالِكَةٌ عَلَى الأَرْضِ!» فلقد كانت عثليا هذه آداة طيّعة في يد الشيطان أراد من خلالها إبادة النسل الملكي الذي منه سيجيء المسيح حسب الجسد، لولا حفظ الله لوعوده.

«وَسَارَ (يورام - يهورام) ابن يهوشافاط فِي طَرِيقِ مُلُوكِ إِسْرَائِيلَ كَمَا فَعَلَ بَيْتُ أَخْآبَ، لأَنَّ بِنْتَ أَخْآبَ كَانَتْ لَهُ امْرَأَةً، وَعَمِلَ الشَّرَّ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ... وَسَارَ (أخزيا) فِي طَرِيقِ بَيْتِ أَخْآبَ، وَعَمِلَ الشَّرَّ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ كَبَيْتِ أَخْآبَ، لأَنَّهُ كَانَ صِهْرَ بَيْتِ أَخْآبَ» (٢ملوك٨: ١٨، ٢٧). لقد كان آخاب - مع إيزابل امرأته - أشر ملوك اسرائيل. «وَزَادَ أَخْآبُ فِي الْعَمَلِ لإِغَاظَةِ الرَّبِّ إِلهِ إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ مُلُوكِ إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَهُ» (١ملوك١٦: ٣٠-٣٣).

ثم بعد تحالف يهوشافاط مع آخاب اجتماعيًا، تحالف معه عسكريًا. ومرتين يقول العبارة: «مَثَلِي مَثَلُكَ. شَعْبِي كَشَعْبِكَ، وَخَيْلِي كَخَيْلِكَ»! مرة لآخاب ومرة لابنه! وفي هاتين المعركتين لم يكن يحارب حروب الرب كداود، بل حروب آخاب ويهورام ابن آخاب! وكيف أيها الملك التقي يكون مثلك مثل مَن باع نفسه لعمل الشر؟! لقد نسي يهوشافاط هويته ومَن هو، بل نسي أيضًا أن الشعب الذي معه هو شعب الله، لا شعبه، وأنه وكيل عليهم لا مالكًا لهم! ولولا إنقاذ الله له بمعجزة، لكان قد فَقَدَ حياته في الحرب التي دخلها لأجل خاطر آخاب. ويومها جاءه التوبيخ: «أَتُسَاعِدُ الشِّرِّيرَ وَتُحِبُّ مُبْغِضِي الرَّبِّ؟ فَلِذلِكَ الْغَضَبُ عَلَيْكَ مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ» (٢أخبار١٩: ٢). ولم يكتفِ يهوشافاط بذلك، بل تحالف اقتصاديًا مع أخزيا ابن آخاب، «ثُمَّ بَعْدَ ذلِكَ اتَّحَدَ يَهُوشَافَاطُ مَلِكُ يَهُوذَا مَعَ أَخَزْيَا مَلِكِ إِسْرَائِيلَ الَّذِي أَسَاءَ فِي عَمَلِهِ. فَاتَّحَدَ مَعَهُ فِي عَمَلِ سُفُنٍ تَسِيرُ إِلَى تَرْشِيشَ، فَعَمِلاَ السُّفُنَ فِي عِصْيُونَ جَابِرَ... فَتَكَسَّرَتِ السُّفُنُ وَلَمْ تَسْتَطِعِ السَّيْرَ إِلَى تَرْشِيشَ» (٢أخبار٢٠: ٣٥-٣٧؛ ١ملوك٢٢: ٤٨).

ولقد أعلن الرب مسؤوليته عن تحطُّم هذا المشروع، ويذكر السبب بكل وضوح: «لأَنَّكَ اتَّحَدْتَ مَعَ أَخَزْيَا، قَدِ اقْتَحَمَ الرَّبُّ أَعْمَالَكَ». وهو ما فهمه المرنم، فقال لله: «بِرِيحٍ شَرْقِيَّةٍ (أنت يا الله) تَكْسِرُ سُفُنَ تَرْشِيشَ» (مزمور٤٨: ٧).

تكسرت هذه السفن الضخمة المصمَّمة للإبحار لفترات طويلة، والمفترض أنها لا تتأثر بعوامل الجو، في عصيون جابر (ومعناه: العمود الفقري لرجل قوي)! فالله عنده قوة للمساعدة، وقوة للإسقاط.

وإن بدَت الرسالة قاسية «قَدِ اقْتَحَمَ الرَّبُّ أَعْمَالَكَ»، إلا أن هذا الأمر لا يجب أن يخيفنا، بالعكس، فهو صمام أمان لحياتنا! فمحبة الله المُنعمة التي تمنح، هي ذات المحبة الحكيمة التي تمنع. وكما يسير الله أمامنا - في طريق مشيئته - ليكسّر مصاريع النحاس وعوارض الحديد، فهو أيضًا يسير معنا ليحطّم أعمالنا التي نعملها في غير مشيئته. وكما يسيّج حولنا لحمايتنا من الأعداء، فإنه أحيانًا يسيّج طريقنا بالشوك لحمايتنا من أنفسنا وإتمام مقاصد قلوبنا. ذلك ليضمن قداستنا في الحاضر، وأماننا في المستقبل الذي لا نراه ولا نعرفه.

ولكن ربما حاول يهوشافاط أيضًا تقليد سليمان الملك، «وَعَمِلَ الْمَلِكُ سُلَيْمَانُ سُفُنًا فِي عِصْيُونَ جَابَرَ... لأَنَّهُ كَانَ لِلْمَلِكِ فِي الْبَحْرِ سُفُنُ تَرْشِيشَ مَعَ سُفُنِ حِيرَامَ» (١ملوك٩: ٢٦؛ ١٠: ٢٢).

لكن فاتَه أنه ليس من الضروري إطلاقًا أن نعيش خططًا متطابقة، أو أن ننجح فيما نجح فيه الآخرون!

لكن تعلَّم يهوشافاط الدرسَ أخيرًا، فلم يكرّر خطأه عندما عُرضَ عليه الأمر مرةً أخرى. «حِينَئِذٍ قَالَ أَخَزْيَا بْنُ أَخْآبَ لِيَهُوشَافَاطَ: “لِيَذهَبْ عَبِيدِي مَعَ عَبِيدِكَ فِي السُّفُنِ”. فَلَمْ يَشَأْ يَهُوشَافَاطُ» (١ملوك٢٢: ٤٨، ٤٩).

وتلفت النظر جدًا هذه العبارة التي جاءت في ختام سرد قصة حياة يهوشافاط: «وَصَالَحَ يَهُوشَافَاطُ مَلِكَ إِسْرَائِيل!» (١ملوك٢٢: ٤٤). وكأن الوحي أراد أن يحذرنا بأحرف كبيرة، فلقد كانت تلك هي غلطة يهوشافاط الكبرى، فلم يكن له القلب المنفصل لله، بل صالحَ الشرير وصاهره وساعده وأحبّه وأكلَ معه وشرب، مع أنه لم يكن محتاجًا إليه في شيء!

بينما لا نجد هذا الاتجاه في حياة داود، الذي قال: «أَلاَ أُبْغِضُ مُبْغِضِيكَ يَا رَبُّ، وَأَمْقُتُ مُقَاوِمِيكَ؟ بُغْضًا تَامًّا أَبْغَضْتُهُمْ. صَارُوا لِي أَعْدَاءً. اخْتَبِرْنِي يَا اَللهُ وَاعْرِفْ قَلْبِي. امْتَحِنِّي وَاعْرِفْ أَفْكَارِي. وَانْظُرْ إِنْ كَانَ فِيَّ طَرِيقٌ بَاطِلٌ، وَاهْدِنِي طَرِيقًا أَبَدِيًّا» (مزمور١٣٩: ٢١-٢٤). بل كان لسان حاله: «لاَ تُمِلْ قَلْبِي إِلَى أَمْرٍ رَدِيءٍ، لأَتَعَلَّلَ بِعِلَلِ الشَّرِّ مَعَ أُنَاسٍ فَاعِلِي إِثْمٍ، وَلاَ آكُلْ مِنْ نَفَائِسِهِمْ» (مزمور١٤١: ٤).

وأخيرًا، ألا نأخذ عِبرة لأنفسنا من خلال حياة الملك يهوشافاط!

«لاَ تَكُونُوا تَحْتَ نِيرٍ مَعَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ، لأَنَّهُ أَيَّةُ خِلْطَةٍ لِلْبِرِّ وَالإِثْمِ؟ وَأَيَّةُ شَرِكَةٍ لِلنُّورِ مَعَ الظُّلْمَةِ؟ وَأَيُّ اتِّفَاق لِلْمَسِيحِ مَعَ بَلِيعَالَ؟ وَأَيُّ نَصِيبٍ لِلْمُؤْمِنِ مَعَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِ؟ وَأَيَّةُ مُوَافَقَةٍ لِهَيْكَلِ اللهِ مَعَ الأَوْثَانِ؟» (٢كورنثوس٦: ١٤-١٦)

(يُتبَع)