استخدم الله بطرس يوم الخمسين بقوة عظيمة، فخدم خدمة قصيرة بقوة الروح القدس، مدتها ثلاث دقائق، ربح بها ثلاثة آلاف نفس للمسيح.
يوم الخمسين هو عيد عند اليهود، وكان بعد خمسين يومًا من قيامة المسيح، حيث انسكب الروح القدس من السماء، فتكوَّنت الكنيسة، جسد المسيح، لتكون شاهدة له على الأرض، وهو بداية لتدبير النعمة.
تُعتبر عظة بطرس يوم الخمسين من أقوى العظات التبشيرية، التي سمعها آلاف اليهود الذين جاؤوا من كل البلدان إلى أورشليم في العيد. وكانت عظة مختصرة وبسيطة، وواضحة، ومرتبة، وموضوعها الرب يسوع وعمله، ومدعمة باقتباسات من العهد القديم، لذلك كانت مؤثرة، ونتائجها عظيمة جدًا.
ونتأمل الآن في عظته الأولى:
قال لهم: «أَيُّهَا الرِّجَالُ الإِسْرَائِيلِيُّونَ. اسْمَعُوا هذِهِ الأَقْوَالَ»:
١. يسوع: أول كلمة يقولها في عظته هى يسوع، ومعناها يهوة يخلص، «وَتَدْعُو اسْمَهُ يَسُوعَ. لأَنَّهُ يُخَلِّصُ شَعْبَهُ مِنْ خَطَايَاهُمْ» (متى١: ٢١)، ولا يوجد خلاص إلا به (أعمال٤: ١٢).
٢. الناصري: تربى الرب يسوع في الناصرة، لذلك دُعيَ ناصريًا، وكانت الناصرة بلدة محتقرة في الجليل، لذلك كان لقب الناصري يدل على الاحتقار (إشعياء٥٣: ٣)، ولقد عُرف بين الناس بأنه نجار الناصرة، وكان هذا اللقب عثرة لليهود (يوحنا١: ٤٥، ٤٦).
٣. رَجُلٌ: هنا يتكلم عن ناسوته، فالمسيح هو الله الذي ظهر في الجسد، «كَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ... وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا» (يوحنا١: ١، ١٤).
٤. المُرسَل من الله: «قَدْ تَبَرْهَنَ لَكُمْ مِنْ قِبَلِ اللهِ بِقُوَّاتٍ وَعَجَائِبَ وَآيَاتٍ صَنَعَهَا اللهُ بِيَدِهِ فِي وَسْطِكُمْ، كَمَا أَنْتُمْ أَيْضًا تَعْلَمُونَ». أي ثبت بالدليل القاطع أنه مرسل من الله، وذلك عن طريق القوات والعجائب والآيات التي صنعها الله بيده، والذين سمعوا بطرس لم ينكروا هذا الأمر.
٥. صليبه: «هذَا أَخَذْتُمُوهُ مُسَلَّمًا بِمَشُورَةِ اللهِ الْمَحْتُومَةِ وَعِلْمِهِ السَّابِقِ، وَبِأَيْدِي أَثَمَةٍ صَلَبْتُمُوهُ وَقَتَلْتُمُوهُ»، يوضح بطرس أن الصليب كان بحسب مشورات الله الأزلية (عبرانيين٩: ١٤)، وأيضًا نبوات العهد القديم تعلن عن حتمية موت المسيح، «يُقْطَعُ الْمَسِيحُ وَلَيْسَ لَهُ» (دانيآل٩: ٢٦)، ولقد تكلم الرب يسوع في حياته كثيرًا عن الصليب.
ثم يعلن لهم مذنوبيتهم، وأن أيديهم آثمة (لوقا٢٣: ٢١)؛ فسبق علم الله بشيء لا يلغي مسؤولية الإنسان عن فعله هذا الشيء.
إن كان الصليب أظهر شر الإنسان وظلمة الشيطان، لكنه في نفس الوقت أظهر محبة الله للبشر، ومحبة المسيح العظيمة للكنيسة (أفسس٥: ٢٥).
٦. دفنه: «وَلاَ تَدَعَ قُدُّوسَكَ يَرَى فَسَادًا»، دُفن المسيح في القبر، ولكنه الوحيد الذي جسده لم يرَ فسادًا، وذلك لأنه القدوس.
«أَيُّهَا الرِّجَالُ الإِخْوَةُ، يَسُوغُ أَنْ يُقَالَ لَكُمْ جِهَارًا عَنْ رَئِيسِ الآبَاءِ دَاوُدَ إِنَّهُ مَاتَ وَدُفِنَ، وَقَبْرُهُ عِنْدَنَا حَتَّى هذَا الْيَوْمِ» أي أن جسد داود ما زال في القبر وقد رأى جسده فسادًا، مثل جميع البشر الذين ماتوا.
«لأَنَّكَ لَنْ تَتْرُكَ نَفْسِي فِي الْهَاوِيَةِ» أي لن تستمر نفسي في حالة انعزال عن الجسد.
٧. قيامته: «اَلَّذِي أَقَامَهُ اللهُ نَاقِضًا أَوْجَاعَ الْمَوْتِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ مُمْكِنًا أَنْ يُمْسَكَ مِنْهُ»، يعلن بطرس بكل وضوح عن قيامة المسيح، وهذه هى المناداة الأولى العلنية عن قيامة المسيح، وليس كما أدعى اليهود الأشرار أن تلاميذه سرقوا الجسد (متى٢٨: ١١-١٥)، وهذا يرينا شر رؤساء الكهنة وخبثهم، لكن الله فضحهم.
ويعلن بطرس عن قيامة المسيح بعدة أدلة:
أولاً: يستشهد من نبوات العهد القديم (مزمور١٦: ١٠، ١١؛ أعمال٢: ٢٦، ٢٧).
ثانيًا: شهادة الرسل: «فَيَسُوعُ هذَا أَقَامَهُ اللهُ، وَنَحْنُ جَمِيعًا شُهُودٌ لِذلِكَ»، الرب يسوع بعد قيامته لم يظهر إلا للمؤمنين (أعمال١٠: ٤٠، ٤١).
ثالثًا: بعد صعوده إلى المجد وجلوسه في يمين العظمة في الأعالي، أخذ الروح القدس وسكبه على الأرض (أعمال٢: ٣٣).
قيامة المسيح إعلان عن نصرته على الموت، وسحق للشيطان، وغلبته على العالم ونظامه الفاسد والمعادي لله.
٨. صعوده وجلوسه: «ارْتَفَعَ بِيَمِينِ اللهِ»، تشمل هذه العبارة صعود المسيح إلى السماء (أعمال١: ٩-١١)، ثم جلوسه في يمين العظمة في الأعالي، في مكان الرفعة والسمو والكرامة، منتظرًا الوقت المعين لوضع أعدائه تحت قدميه.
٩. أَخَذَ الرُّوحِ الْقُدُسِ وسَكَبَه: «وَأَخَذَ مَوْعِدَ الرُّوحِ الْقُدُسِ مِنَ الآبِ، سَكَبَ هذَا الَّذِي أَنْتُمُ الآنَ تُبْصِرُونَهُ وَتَسْمَعُونَهُ»، وكان هذا تتميمًا لما قاله الرب لتلاميذه: «إِنَّهُ خَيْرٌ لَكُمْ أَنْ أَنْطَلِقَ، لأَنَّهُ إِنْ لَمْ أَنْطَلِقْ لاَ يَأْتِيكُمُ الْمُعَزِّي، وَلكِنْ إِنْ ذَهَبْتُ أُرْسِلُهُ إِلَيْكُمْ» (يوحنا١٦: ٧).
١٠. رَبًّا وَمَسِيحًا: «فَلْيَعْلَمْ يَقِينًا جَمِيعُ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ أَنَّ اللهَ جَعَلَ يَسُوعَ هذَا، الَّذِي صَلَبْتُمُوهُ أَنْتُمْ، رَبًّا وَمَسِيحًا»، يعلن بطرس بوضوح أن يسوع الذي صلبتموه ليس فقط أقامه الله وأجلسه عن يمينه في السماوات، لكنه جعله ربًا ومسيحًا، ربًا أي ديانًا للأحياء والأموات، ومسيحًا أي الذي سيملك على شعبه بالبر والعدل، وسوف يضع جميع أعداءه تحت قدميه ويسحقهم.
فَلَمَّا سَمِعُوا نُخِسُوا فِي قُلُوبِهِمْ، أي شعروا بألم شديد في قلوبهم، وحزن عميق بسبب جريمتهم البشعة، وأن موقفهم خطر جدًا، لأن الذي صلبوه هو الرب والديان.
لذلك أمام حيرتهم قَالُوا لِبُطْرُسَ وَلِسَائِرَ الرُّسُلِ: «مَاذَا نَصْنَعُ أَيُّهَا الرِّجَالُ الإِخْوَةُ؟»، فَقَالَ لَهُمْ بُطْرُسُ: «تُوبُوا»، والتوبة هي تغيير الفكر والإتجاه، من رفض المسيح إلى قبول المسيح، التوبة تتضمن الحزن على الخطية وتركها، ثم الاعتراف بها.
«وَلْيَعْتَمِدْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ عَلَى اسْمِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ لِغُفْرَانِ الْخَطَايَا، فَتَقْبَلُوا عَطِيَّةَ الرُّوحِ الْقُدُسِ»، بعد التوبة يأتي دور الإيمان بالرب يسوع المسيح، ليحصلوا على غفران الخطايا ويقبلوا عطية الروح القدس.
المعمودية بالنسبة لهؤلاء كانت تعني الانفصال بطريقة علنية عن هذه الأمة التي صلبت المسيح، وأصبحت موضوعة تحت الدينونة.
«وَبِأَقْوَال أُخَرَ كَثِيرَةٍ كَانَ يَشْهَدُ لَهُمْ وَيَعِظُهُمْ» أي يحثهم على قبول دعوة الله لخلاصهم.
«فَقَبِلُوا كَلاَمَهُ بِفَرَحٍ، وَاعْتَمَدُوا، وَانْضَمَّ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ نَحْوُ ثَلاَثَةِ آلاَفِ نَفْسٍ»، في البداية حزنوا على ما فعلوه إذ نخست قلوبهم، وبعد ذلك قبلوا كلامه بفرح، الحزن أولاً، ثم بعد ذلك الفرح، واستجابوا لدعوة بطرس والرسل، واعتمدوا، أي قطعوا كل ارتباط بالأمة اليهودية، وارتبطوا بالمؤمنين المائة والعشرين، وصاروا في شركة معهم.
نتيجة عظة بطرس آمن نحو ثلاثة آلاف نفس، وكان التأثير عظيمًا جدًا، وعمل الروح القدس واضحًا، يا ليت كل العظات التبشيرية تكون مؤثرة مثل عظة بطرس.
وللحديث بقية