ظاهرة عجيبة موجودة في شعبنا الغالي، فالكل يتشارك النصائح وهم سائرين بسياراتهم، فيشيرون لبعضهم عن أماكن الكمائن والرادارات “الخفية”، رغم أنهم لا يعرفون بعضهم البعض، ولكنه التلاحم المجتمعي النادر.
وفي نهار أحد الأيام أصابتني إحدى هذه النصائح، فوجدت رجلاً يشير لي بضم يديه، وهي تعني في قاموس السائقين السري: “النور والع ... اطفي النور”، فشكرته وغيَّرت وضع نور السيارة بناءً فقط على نصيحة هذا العابِر.
بعد مسافة وجيزة وجدت شخصًا أخر يشير لي بنفس الإشارة (يبدو أن هناك اتفاق مجتمعي عليها)، فتشكَّكت في الأمر، هل أنا لم أُطفئ النور في المرة الأولى؟ أم أن هذا الرجل الثاني يريد أن يُنزلني من السيارة ليسرق محتوياتها (مخاوف بدائية)؟!
قررت أن أترجَّل من السيارة لأتبين الأمر، فوجدت النور الأمامي مُضاء بالفعل كما قال لي الشخص الثاني، وقبل أن أتهم الشخص الأول بالكذب أو “بالاشتغالة”، لاحظت أن لون لمبة السيارة الأمامية أصفر وليس أبيض مثل الأخرى، وعليه فسَّرت الأمر أن الشخص الأول رأى اللمبة الصفراء في النهار فظن أنها مُضاءة، ولهذا نصحني بأن أطفيها، فلما عملت بنصيحته إذ بي أضيئها بعد أن كانت مطفية!!
جال هذا الموقف في ذهني، ووجدت فيه دروس روحية أشاركك -عزيزي القارئ- بمفادهما.
الناصِح الخارجي
أول أمر فكرت فيه هو الشروط الواجب توافرها فيمن يُقدِّم النصائح لي، وخصوصًا الروحية. فنحن للأسف نعيش في زمن يقدِّم فيه الجميع النصائح للجميع، وساعد على هذا توفر منبر خاص بكل فرد عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
وفي رأيي أن هناك شرطان يجعلانني أقبل النصيحة من شخص ما: الشرط الأول، أن يكون هذا الشخص متفوق فيما ينصحني به؛ فليس من المنطقي أن أقبل نصيحة زوجية من شخص مُنفصل، ولا يمكن أن أقتنع بنصيحة في العمل من شخص معروف عنه التسيب وعدم الأمانة؛ فحياة الإنسان تصعد على المنبر قبل كلماته.
وهذا الشرط تحقَّق بشكل شامل في شخص المسيح الكامل، والذي دأب على نُصح تلاميذه طوال فترة وجوده معهم، واستمرت فاعلية نصائحه لهم حتى بعد موته وقيامته!! والسبب أن هذه النصائح والتعاليم كانت ممُلَّحة بسُلطان حياة المسيح المقدَّسة أمام تلاميذه، فانطبع فيهم «جَمِيعِ مَا ابْتَدَأَ يَسُوعُ يَفْعَلُهُ وَيُعَلِّمُ بِهِ» (أعمال١: ١).
أما الشرط الثاني الذي يجب أن يتوفر في الشخص الناصِح، أن يكون له رصيد من المواقف الطيبة لدى من ينصحه. وهو ما تحقق أيضًا بين المسيح وتلاميذه، فرغم أنه وبخهم في مواقف عديدة بسبب أخطائهم، لكنهم تقبلوا توبيخه بصدر رحب، لأنه مُغلَّف بحبِّه الشديد لهم.
ففي إحدى المرات فشل التلاميذ في إخراج شيطان من ابن مصروع لرجل، فلما نزل المسيح من الجبل وعاين هذا الفشل وبَّخ تلاميذه قائلاً: «أَيُّهَا الْجِيلُ غَيْرُ الْمُؤْمِنِ... إِلَى مَتَى أَكُونُ مَعَكُمْ؟ إِلَى مَتَى أَحْتَمِلُكُمْ؟»، ولأن رصيد المسيح المُعلم كبير جدًا عند تلاميذه؛ فلم ينفروا منهم، ولكنهم بعد دقائق نقرأ «تَقَدَّمَ التَّلاَمِيذُ إِلَى يَسُوعَ عَلَى انْفِرَادٍ وَقَالُوا: لِمَاذَا لَمْ نَقْدِرْ نَحْنُ أَنْ نُخْرِجَهُ؟ فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: لِعَدَمِ إِيمَانِكُمْ» (متى١٧: ١٧-٢٠).
وهو درس غالٍ للكنائس والمجموعات، فقبل أن تتسارع أرجلنا لتوبيخ ولتأديب غيرنا، عليها أن تتسارع أولاً لنجدتهم في المشاكل، ومؤازرتهم في الأزمات، ورعايتهم في الاحتياجات.
النور الداخلي
أما الدرس الثاني، أننا كثيرًا ما نتخذ قراراتنا بناءً فقط على نصائح الآخرين، بعضها يُلقينا إلى اليمين وأخرى تدفعنا لليسار، بعضها يُنتج قرارات مُصيبة وأخرى تصنع لنا مُصيبة!! ولذا فمن يعتمد في قراراته فقط على نصائح الآخرين سيؤذي نفسه كثيرًا، ولا بد له من نور داخلي يؤكد له هذه النصائح أو ينفيها.
وهذا يُفسر كلام يبدو صعبًا قاله المسيح لتلاميذه في ظروف صعبة، فبعدما جاءته رسالة الغاليتين مرثا ومريم عن مرض أخيهما لعازر، قرَّر المسيح حينها أن يمكث في الموضع الذي فيه يومين، على عكس مشاعره (لأنه يحب هذه الأسرة)، وعكس قدرته (لأنه شفى حتى غير المؤمنين به)، وعكس برنامجه (لا نعرف الموضع الذي مكث فيه ولا ما كان يفعله فيه؟).
وبعد يومين عكس المسيح قراره السابق قائلاً لتلاميذه:» لِعَازَرُ مَات... وَلكِنْ لِنَذْهَبْ إِلَيْهِ«، وهذا القرار الثاني ليس منطقيًا بالمرة؛ فالمسيح كان مطلوب قتله علنًا في اليهودية، وليس هناك أي داعٍ للمخاطرة بعد أن مات لعازر بالفعل (يوحنا١١: ١٤-١٦)!!
وشرح المسيح حيثيات قراره الأول والثاني قائلاً لتلاميذه في ذات الإصحاح: «أَلَيْسَتْ سَاعَاتُ النَّهَارِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ؟ إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَمْشِي فِي النَّهَارِ لاَ يَعْثُرُ لأَنَّهُ يَنْظُرُ نُورَ هذَا الْعَالَمِ وَلكِنْ إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَمْشِي فِي اللَّيْلِ يَعْثُرُ، لأَنَّ النُّورَ لَيْسَ فِيهِ» (يوحنا١١: ٩، ١٠). فالمسيح يُخبِر تلاميذه أنه لا يسير بالنصائح ولا بالمنطق ولا بالعيان، ولكن بداخله نور يُرشده لنوع القرار وتوقيت القرار، عبر قيادة روح الله له، والذي يضبط كل عناصره الإنسانية على مشيئة الله الصالحة والحكيمة. ولذا فالمسيح لا يخاف من الاغتيال أو من أي “ليل” يسير فيه، لأن النور ليس خارجه ولكن فيه.
ومن روعة النعمة أن المؤمنين بالمسيح خُتموا بذات النور، ولهم الفرصة العظيمة أن يقودهم شخص الله الروح القدس في هذه الحياة المُـتقلبة وبين اختياراتها المُتشابهة، فيتمتعوا بهذا الامتياز «وَأَمَّا الرُّوحِيُّ فَيَحْكُمُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ لاَ يُحْكَمُ فِيهِ مِنْ أَحَدٍ» (١كورنثوس٢: ١٥).
وإن أشار لي هذا النور بأي قرار أو خدمة أو تصرف، فعليَّ أن أطيعه مهما كانت التكلفة، ولا أوقف مسيرتي أو أُعطِّل رؤيتي أو أنشغل بأي أصوات تقول لي: “إطفي النور”.