في حياة مخلصنا القصيرة على الأرض أحاطت به الجموع وعاينت عظمته، قدرته الفائقة ورحمته، رقته وتواضع قلبه. يده أطعمت جموعًا جائعة، ولمست أجسادً عانت من قسوة البرص فطهرت في الحال، وأقامت المفلوجين وأزالت المرض من الأجساد، وغادرت الشياطين أجساد بشر. ونطق فمه الكريم بأعمق وأجمل وأطهر الكلمات التي أخذت بقلوب وعقول السامعين.
في نهاية رحلته على الأرض والتي خاض فيها معركة الصليب وغمار الألم الرهيب ليفدينا ويخلصنا من آثامنا ويدفع ثمن جرمنا، ذهبت عنه الجموع وتركه الناس. لكن الله سمع له من أجل تقواه قابلًا عمله الكريم، فقام من الموت، وظهر لمحبيه، وصعد أمامهم إلى السماء في مشهد مهيب تاركًا خلفه أفراحًا في قلوب تلاميذه، منتظرين وعده الكريم بحلول الروح القدس. وإذ حصلوا على القوة والقيادة التي جاءت في أجلى صورها بحلوله، طافوا في الأرض خدامًا للمسيح، انهزمت أمامهم قوى الشر، وتأسست بعمل روح الله الكنيسة، التي تنتظر الكنيسة كالعروس رجوع عريسها الذي وعد، وحاشاه أن يخلف الميعاد، لتُزف إلى المجد حيث تلتصق بعريسها المسيح إلى الأبد بلا انفصال.
الروح القدس وهو يقود كُتاب الوحي المقدس، لا ينسى أشخاصًا عملوا في الخفاء أعمالًا بدافع الحب والتقدير للسيد. لم تسلّط عليهم أضواء الناس وليس في أعمالهم ضجيج أو شبهة تباهي أو افتخار، لكن كانت دوافعهم نقية، وأعمالهم مخفية، ولكن روح الله الذي يفحص كل شيء حتى أعماق الله لم يتجاوز أعمالهم، بل أظهرها جلية لنتعلم نحن دروسًا في حياتنا الروحية:
١. التقدير المُطلق للرب يقود إلى خدمة في الخفاء: يوسف الذي من الرامة
«وَلَمَّا كَانَ الْمَسَاءُ، جَاءَ رَجُلٌ غَنِيٌّ مِنَ الرَّامَةِ اسْمُهُ يُوسُفُ، وَكَانَ هُوَ أَيْضًا تِلْمِيذًا لِيَسُوعَ. فَهذَا تَقَدَّمَ إِلَى بِيلاَطُسَ وَطَلَبَ جَسَدَ يَسُوعَ. فَأَمَرَ بِيلاَطُسُ حِينَئِذٍ أَنْ يُعْطَى الْجَسَدُ. فَأَخَذَ يُوسُفُ الْجَسَدَ وَلَفَّهُ بِكَتَّانٍ نَقِيٍّ، وَوَضَعَهُ فِي قَبْرِهِ الْجَدِيدِ الَّذِي كَانَ قَدْ نَحَتَهُ فِي الصَّخْرَةِ، ثُمَّ دَحْرَجَ حَجَرًا كَبِيرًا عَلَى بَاب الْقَبْرِ وَمَضَى» (متى٢٧: ٥٧-٦٠). أخذ الجسد وكفَّنه ووضع أطيابًا، وقد شاركه العمل نيقديموس الذي أتى ليسوع ليلًا (يوحنا٣).
لم يكُن هناك من يعمل هذا الإكرام للرب إلا شخصٌ بمواصفات يوسف، الذي كان في الخفاء تلميذًا لكنه كان وفيًا. عمل أيضًا عملًا في الخفاء بحب كثير وتقدير عميق للسيد، بلا ضجيج. لكنه نال تكريمًا خاصًا من الروح القدس فصار معلومًا للأجيال اللاحقة ما صنع لأجل ابن الله المتجسد.
٢. القلب المشتاق لمعرفة الحق يقود إلى المسيح: نيقوديموس معلم اليهود الذي أتى إلى يسوع ليلًا.
«كَانَ إِنْسَانٌ مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ اسْمُهُ نِيقُودِيمُوسُ، رَئِيسٌ لِلْيَهُودِ. هذَا جَاءَ إِلَى يَسُوعَ لَيْلاً وَقَالَ لَهُ: “يَا مُعَلِّمُ، نَعْلَمُ أَنَّكَ قَدْ أَتَيْتَ مِنَ اللهِ مُعَلِّمًا، لأَنْ لَيْسَ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَعْمَلَ هذِهِ الآيَاتِ الَّتِي أَنْتَ تَعْمَلُ إِنْ لَمْ يَكُنِ اللهُ مَعَهُ”. أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ: “الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنْ فَوْقُ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَرَى مَلَكُوتَ اللهِ”. قَالَ لَهُ نِيقُودِيمُوسُ: “كَيْفَ يُمْكِنُ الإِنْسَانَ أَنْ يُولَدَ وَهُوَ شَيْخٌ؟ أَلَعَلَّهُ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ بَطْنَ أُمِّهِ ثَانِيَةً وَيُولَدَ؟” أَجَابَ يَسُوعُ: “الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنَ الْمَاءِ وَالرُّوحِ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ مَلَكُوتَ اللهِ...”» (يوحنا٣: ١–٨).
كان نيقديموس باحثًا عن الحق، وقد رأى بما لا يدع مجالًا للشك عظمة السيد أقولًا وأفعالًا، ولم يكُن معاندًا. نعم لقد أتى ليلًا، ربما بسبب الخوف من اليهود أو حتى ليكون له وقت للتحدث إلى الرب في الهدوء. لكن على كل الأحوال أتى بدوافع مُقدَسة تجاوب الرب معها، فأعلن له الحق كاملًا. ومع أنه أتى في الخفاء، رأى الروح القدس أن يبرز فعلته كمثال لما ينبغي أن يكون عليه التقي من انجذاب إلى كلمة الله، وبحث وفحص وتنقيب عن درر الكلمة. وإن كان هذا يجري في الخفاء لكن له من التقدير عند الله ما يفوق الخيال. يقول الكتاب عن أهل بيرية: «وَكَانَ هؤُلاَءِ أَشْرَفَ مِنَ الَّذِينَ فِي تَسَالُونِيكِي، فَقَبِلُوا الْكَلِمَةَ بِكُلِّ نَشَاطٍ فَاحِصِينَ الْكُتُبَ كُلَّ يَوْمٍ: هَلْ هذِهِ الأُمُورُ هكَذَا؟» (أعمال١٧: ١١).
٣. القلب المفعم بالحب للسيد يقود إلى التبعية مهما كانت التكلفة: مريم المجدلية، وحب بلا حدود وبلا ضجيج.
في مشهد الصلب: «وَكَانَتْ هُنَاكَ نِسَاءٌ كَثِيرَاتٌ يَنْظُرْنَ مِنْ بَعِيدٍ، وَهُنَّ كُنَّ قَدْ تَبِعْنَ يَسُوعَ مِنَ الْجَلِيلِ يَخْدِمْنَهُ، وَبَيْنَهُنَّ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ...» (متى٢٧: ٥٥-٥٦).
في مشهد الدفن: «كَانَتْ هُنَاكَ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ وَمَرْيَمُ الأُخْرَى جَالِسَتَيْنِ تُجَاهَ الْقَبْرِ» (متى٢٧: ٥٩–٦١).
في فجر يوم القيامة (والظلام باق): «جَاءَتْ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ وَمَرْيَمُ الأُخْرَى لِتَنْظُرَا الْقَبْرَ...» (متى٢٨: ١-٢).
أليس هذا عجيبًا؟ محبة من القلب للسيد، بلا ضجيج، بلا كلمات. هي محبة في الخفاء، تقود هذه النفس إلى التبعية والالتصاق بالرب والبحث عنه وعن محضره وعن أقواله وعن جلسته. إنها غاية الإيمان أن نحب الرب من كل قلبنا وأن نُخلِص له الولاء ونتلهف بشوق لجلسه في محضره.
نلاحظ أن هؤلاء الثلاثة كانوا يتحركون فرادى، لم يكونوا أبدًا تحت تأثير القطيع، بل كانت قراراتهم فرديه نابعة من قلب محب وتقدير عميق للسيد.
وإن كنا نعيش هذه الأيام الأخيرة حيث تندر الجماعات الأمينة للرب، يبحث روح الله عن الأمناء أفرادًا. فليتنا كأفراد نتخذ من هذه الأمثلة حافزًا لحياة مُفرَزة للسيد، مُخلِصة له لا على منابر الخدمة ولا خلف الآلات الموسيقية ولا بجمال الأصوات ورنين الكلمات المنمقة، بل بالروح الوديع المتضع والقلب المُلتهِب في السريرة عندما تنحصر عنا الأضواء ويختفي من حولنا الناس ونواجه حقيقتنا المجردة بلا أي تجميل أو تجويد.