في محطة سابقة من رحلتنا في عقل إبراهيم، بحثنا في رفوف عقله عن قناعات قادته إلى قرارات في حياته، ومعًا تعرفنا على مفهوم الوطن وفهمنا لماذا قَبَلَ أن يخرج من مكانه، بل وسكن مُتغربًا في كنعان. ثم اقتربنا قليلاً لقناعة الثقة في الله وكيف وَثَقَ في وعد الله على خلاف المنظور وهو عدم قدرته بيولوجيًا هو وسارة على الإنجاب، لأنه: «تَيَقَّنَ أَنَّ مَا وَعَدَ بِهِ هُوَ(الله) قَادِرٌ أَنْ يَفْعَلَه» (رومية٤: ٢١).
واليوم سنحاول أن نفتش في قناعة كانت خلف قرار غريب، وهو أن يقبل تقديم ابنه على المذبح! وقمة الدهشة في كونه حتى لا يسأل الرب لماذا؟ تُرى هل كان مُغيَب العقل؟ أم مُفتقد الإحساس؟!
في الحقيقة لا هذا ولا ذاك، بل ماذا يقول الكتاب: «بِالإِيمَانِ قَدَّمَ إِبْرَاهِيمُ إِسْحَاقَ وَهُوَ مُجَرَّبٌ - قَدَّمَ الَّذِي قَبِلَ الْمَوَاعِيدَ، وَحِيدَهُ الَّذِي قِيلَ لَهُ: إنَّهُ بِإِسْحَاقَ يُدْعَى لَكَ نَسْلٌ. إِذْ حَسِبَ أَنَّ اللهَ قَادِرٌ عَلَى الإِقَامَةِ مِنَ الأَمْوَاتِ أَيْضًا، الَّذِينَ مِنْهُمْ أَخَذَهُ أَيْضًا فِي مِثَالٍ» (عبرانيين١١: ١٧-١٩).
أولاً: بالإيمان قدَّم
لقد نضج الإيمان داخل إبراهيم وأصبح ليس فقط ينال من الله، بل أيضًا يُقدِّم، وهو هنا درس لكل المؤمنين، فكثيرًا ما نختزل الإيمان مع الله في جانب واحد وهو أن نأخذ منه، وهو في حكمته يمنح للجميع، لكن أنانيتنا تتجاهل أن تُقدِّم، فعلينا أن نتبنى “قناعة أن الإيمان يقدِّم”.
ثانيًا: الطاعة غير المشروطة
وقناعة “الإيمان يقدِّم” كان من المُمكن أن تُطبَّق في أي شيء، ولكنها قادته أن يُقدِّم لله مَنْ قد ناله منه، وهو إسحاق ابن الموعد. فكيف قَبِلَ دون حتى أن يسأل أو يتحاجج مع الرب؟! فيوم أن أخبره الرب بدينونة سدوم اجتهد أن يُثني الرب عن القرار، وقَدَّمَ ٦ محاولات ليقف الأمر (تكوين١٨: ٢١-٣٣)، أما هنا لم يحاول مرة واحدة أن يُرجِع الرب عن القرار، يا له من رجل يدعو للدهشة ليس لموقفه هذا فحسب، بل لموقفنا نحن حينما يطلب الرب منا من خلال كلمته أن نقدم شيئًا ما، كيف نحاول أن نتمسك وندافع عنه ونقدِّم الحجج لعلنا نظل مُتمسكين به ونُثني الله عنه، فيا لجهالة تفكيرنا!
ولكن ماذا كان وراء سلوك الطاعة هذا؟ حتمًا قناعة يمكن أن نستشفها من قراءة تكوين٢٢، وهي بفم الرب نفسه: «عَلِمْتُ انَّكَ خَائِفٌ اللهَ فَلَمْ تُمْسِكِ ابْنَكَ وَحِيدَكَ عَنِّي». لاحظ معي نوع الخوف ليس هو الرعب منه، بل مهابته وتقديره. وهذا السلوك تجاه الله لا ينبع إلا من المحبة العميقة له، حينما تندمج المحبة لله مع الثقة في دوافعه من نحونا، تقود إلى سلوك عنوانه الطاعة غير المشروطة.
عزيزي قُلّ لي كيف تفكر عن الله، فسوف أتوقع سلوكك إن طلب منك أمرًا. كثيرًا لا نسلك مسلك طاعة ابراهيم لسبب نقص المحبة والثقة في قلوبنا ناحية الله. لذا قبل أن أشجِّعك على طاعة الله عليك أن ترفع منسوب المحبة والثقة فيه، يومها لن تمُسك بأي أمر يطلبه الرب مرنمًا في قلبك: “أقول أمين في كل أمر تأمرني بيه حتى إن كان مُرّ”.
ثالثًا: وهو مُجرَّب
آه ما أقساه امتحان على قلب الأب أن يُوضع في صراع بين محبة العاطي (الله) ومحبة العطية (إسحاق)، فبأي منهما سيضحي؟
نحن نقرأها الآن بأريحية شديدة لكن حاول أن تكون مكانه، كم كان يُعتصر ألمًا، ولمدة ثلاثة أيام ليصل إلى الموضع الذي عينه له الرب (تكوين٢٢: ٤). هل كان لديه فرصة للرجوع؟! بالتأكيد: نعم. هل كان لديه رغبة للرجوع؟ قطعًا: لا؛ لأنه خائف الله الذي طلب. كان إبراهيم في مستوى إيماني عالٍ فلم يبخل بالعطية على العاطي.
وهنا سأخرج قليلاً من رفوف عقل إبراهيم، وبنعال مخلوعة سأقترب من سيدي وإلهي؛ لأحاول أن أفهم هل لدى الله مغزى من طلب مثل هذا؟ نعم، عزيزي، فكل سلوك إلهي مَحسوب وبدقة. فعلى مدار سفر التكوين لم نسمع أن الله طلب من أحد تقديم ذبائح، بل هم من أنفسهم قدموا، وكانت تقدماتهما من الحيوانات. ولكن هنا قصد الله أن يطلب من أبو المؤمنين محرقة، ولكن بشرية، محبوبة ووحيدة قلب أبيها؛ ليأخذ أنظارنا لأن المحرقة الحقيقية هي في الأساس بشر وليس حيوان، وحيد أبيه وابن محبته، ومن غيره إلا ذلك الذي صار جسدًا وحَلَّ بيننا.
لقد كان تكوين ٢٢ بمثابة بروفة لحدث الصليب؛ فطاعة إبراهيم سمحت لله أن يعطينا لمحة عن عواطفه يوم قَدَّمَ ابنه، فمكتوب: «اَلَّذِي لَمْ يُشْفِقْ (يبخل) عَلَى ابْنِهِ، بَلْ بَذَلَهُ لأَجْلِنَا أَجْمَعِينَ، كَيْفَ لاَ يَهَبُنَا أَيْضًا مَعَهُ كُلَّ شَيْءٍ؟» (رومية٨: ٣٢).
فإن كان إبراهيم في يومه على جبل المريا تألم بين شقي رحى محبته لله ومحبته لإسحاق، ولكن قد وَجَدَ مَنْ يشفق عليه، وهو ملاك الرب بكبش بدل إسحاق (تكوين٢٢: ١٣)، فأقول - بكل احترام - على رابية الجلجثة لم يكن رحمة حين كان الله بين رحى محبته للابن ومحبته للبشرية الساقطة، فلم يبخل علينا به، بل ضربه لأجلنا.
يا له من اسكتش يرسم لنا ملامح قلب الله يوم صليب ربنا يسوع، بل وطاعة ربنا يسوع في سلوك إسحاق الخاضع لمشيئة أبيه.
والآن نعود إلى رفوف عقل إبراهيم لنبحث عن قناعة أخيرة في محطتنا.
رابعًا: نَسْجُدُ ثُمَّ نَرْجِعُ إلَيْكُمَا
طلب ابراهيم من غلاميه أن يبقوا بعيدًا أما هو وإسحاق فيذهبوا كلاهما معًا ثم يرجعا (تكوين٢٢: ٤)، فكيف ستقدمه وكيف سترجع وهو معك؟ هل خلف ذلك قناعة؟
بالتأكيد نعم «إِذْ حَسِبَ أَنَّ اللهَ قَادِرٌ عَلَى الإِقَامَةِ مِنَ الأَمْوَاتِ». إنها قناعة إبراهيم عن الله، فمن جسدي المائت خرج إسحاق ابن الموعد، فالله إله الوعد سيقيم ابن الموعد لذا بكل يقين قال: نرجع، وليس: أرجع.
كنت أتمنى أن نبقى سويًا في متحف قناعات إبراهيم، لنتعلم ونُبنى، ولكن لضيق المجال أشجعك عزيزي أن تخصص لها وقتًا، وتفحص كل سلوكيات ذلك البطل، إلى أن ألقاك في رحلة أخرى راجيًا أن تقيس قناعاتك على ذلك البطل.