ثلاثة عوائق كانت تَحُول بين تعرف زكا بالمسيح (لوقا ١٩)، ذلك العشار الذي يسكن مدينة أريحا، قصير القامة، وغني! وهل هناك من عيب في هذا؟ دعنا نرى هذه التحديات أو العوائق:
أولًا: كان عشارًا غنيًا
الغنى بركة من الله، لا سيما للشعب الأرضي، لكن زكا كان غناه من صراخ المساكين. فقد كان العشارون يوفون الدولة الرومانية الضرائب المستحقَة على الشعب، وكم كانت هناك من مظالم وقسوة في سبيل تحصيل العائد الأكبر من الأرباح.
كان زكا محبًا للمال، ومحبة المال أصلٌ لكل الشرور (١تيموثاوس٦: ١٠). وقال الرب إنه من الصعب دخول المتكلين على غناهم المادي إلى ملكوت الله. «فَلَمَّا سَمِعَ تَلاَمِيذُهُ بُهِتُوا جِدًّا قَائِلِينَ: “إِذًا مَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَخْلُصَ؟”». وهذا سؤال منطقي لأنه ليس خافٍ على الجميع تكالب الناس على الغنى المادي والمحبة الطبيعية لامتلاك الأشياء وخطورة محبة المال حتى على المؤمنين وخدام الله. لكن السيد أراد أن يرسِّخ في وجدان تلاميذه شيئًا هامًا وهو أن المستحيل بين الناس مستطاع عند الله (متى١٩: ٢٣-٢٦).
لكن زكا لم يكن فقط غنيًا لكن عشارًا أيضًا، وهي الفئة المكروهة من العامة في إسرائيل لجشعهم وقسوتهم في تحصيل الضرائب من الشعب. لقد كانت إحدى المأخذ التي ساقها الفريسيون على الرب يسوع أنه يحب العشارين ويجلس معهم (مرقس٢: ١٦).
ثانيًا: كان قصير القامة
اصطدمت إرادة زكا أن يرى يسوع بعائق طبيعي وهو قصر قامته الزائد. فالرب لم يكن يسير منفردًا بل دائمًا محاطًا بجموع الشعب. فلم يكن مثله رقيق وشافٍ قدير ومعلم يتكلم بسلطان وليس كالكتبة والفريسيين الذين كل الشعب سماع تعاليمهم التي تختلف عن حياتهم وسلوكهم (ويا له من عار!).
وماذا يفعل؟ وكيف له أن يرى يسوع؟ هداه تفكيره إلى فكرة لربما تجلب عليه كثيرًا من التنمر وسخرية الناس، أن يتسلق شجرة جميز حتى إذا ما مر السيد المسيح يراه ولو للحظه يشبع بها شوق قلبه. فلم يكن المال إلا سيدًا رديئا لم يحقِّق له ما أراد من راحة الضمير، بل أن صرخات الأيتام والأرامل كانت تكدر حياته وتقلق نومه وتثير مخاوفه من سوء المصير.
ولنا أن نتخيل مشهده وهو قابع فوق الجميزة ربما لساعات انتظارًا لعبور سيد كل الأرض. ويا له من موكب مهيب.
ثالثًا: كان يسكن مدينة أريحا!!
وما العيب في هذا؟ كانت أريحا مدينة عاصية وملعونة. قال عنها يشوع: «مَلْعُونٌ قُدَّامَ الرَّبِّ الرَّجُلُ الَّذِي يَقُومُ وَيَبْنِي هذِهِ الْمَدِينَةَ أَرِيحَا. بِبِكْرِهِ يُؤَسِّسُهَا وَبِصَغِيرِهِ يَنْصِبُ أَبْوَابَهَا» (يشوع٦: ٢٦).
وما عساه أن يفعل بهذه التحديات الثلاثة: كونه عشار غني، قصير القامة، ساكن في مدينة ملعونة!!
فهل لهذا الإنسان من خلاص؟ هل يمكن أن يلتقي هذا البائس مع مخلص الخطاة على أرض ملعونة بسبب عصيانها وخطاياها؟ يا لنعمة الله الفائقة. نعود لقول الرب يسوع «هذَا عِنْدَ النَّاسِ غَيْرُ مُسْتَطَاعٍ، وَلكِنْ عِنْدَ اللهِ كُلُّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ». كان الرب يسوع المسيح ابن الله الوحيد قد جاء ليطلب ويخلص ما قد هلك (لوقا١٩: ١٠).
فكيف تم اللقاء؟ يقول الكتاب أولاً: «ثمَّ دَخَلَ وَاجْتَازَ فِي أَرِيحَا». قبل أن يذهب إلى أريحا (مدينة ملعونة) كان قد أتى إلى الأرض الملعونة بسبب الخطية (تكوين٣: ١٧)، ذهب السيد يدفعه الحب ليخلص نفوسًا غالية على قلبه!! أليس هذا عجيبا؟
لم يكن السيد فقط مستعدًا أن يذهب إلى أرض ملعونة ولا إلى مدينة ملعونة (أقولها مرتجفًا) أنه صار لعنة لأجلنا (غلاطية٣: ١٣).
ثانيًا: توجه بالقصد إلى حيث يقبع هذا العشار. «فَلَمَّا جَاءَ يَسُوعُ إِلَى الْمَكَانِ، نَظَرَ إِلَى فَوْقُ فَرَآهُ، وَقَالَ لَهُ: “يَا زَكَّا، أَسْرِعْ وَانْزِلْ، لأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَمْكُثَ الْيَوْمَ فِي بَيْتِكَ”». إنه من قيل عنه «مَمْلُوءًا نِعْمَةً وَحَقًّا» (يوحنا١: ١٤). نعمة الله في المسيح حققت له أضعاف ما أراد! أراد أن يرى يسوع، وها يسوع يكلمه. أراد أن ينظر جلاله لحيظة وها السيد سيمكث معه يومًا. أراد أن يراه عابرًا وها السيد يذهب إلى بيته ويجالسه. يا لعمل نعمة الله؛ إنها أغنى وأجمل وأعمق من الخيال.
رابعًا: «فَأَسْرَعَ وَنَزَلَ وَقَبِلَهُ فَرِحًا».
الرب في بيت زكا!! يا لها من مفاجأة سارة ومشهد يأخذ بالألباب، لقد اختبر فرحًا عجيبًا بمجرد قبول أن يذهب الرب إلى بيته. يا لها من كرامة أنه يومًا استضاف المسيح. لقد رأى السيد الرب قلبه ورغبته الأكيدة في لقائه؛ فنال منه ما هو أعظم من مجرد زيارة.
لقد أراد أن يرى يسوع. وتغلب على قصر قامته بتسلقه الجميزة، ولم يعبأ بكلام وسخرية الناس وكان يريد أن يرى يسوع بقلب مشتاق، والسيد تفاعل مع عواطف هذا الرجل المخلص. ثم أسرع نزولاً، وتحمل الكلمة في طياتها اللهفة لملاقاة السيد. وقَبِل الرب فرحًا. وهذا مشهد يؤسر القلب. فمجرد التحدث إلى الرب يجلب الفرح، فما بالنا ببيت يقيم فيه المسيح وقلب يسكنه، أليس هذا مجيدا؟
والنتائج عجيبة ومجيدة
«هَا أَنَا يَا رَبُّ أُعْطِي نِصْفَ أَمْوَالِي لِلْمَسَاكِينِ، وَإِنْ كُنْتُ قَدْ وَشَيْتُ بِأَحَدٍ أَرُدُّ أَرْبَعَةَ أَضْعَافٍ».
١. دخل يسوع القلب والبيت؛ فصار له الفرح وأيضًا القدرة على اتخاذ القرارات الصعبة.
٢. خرج المال ومحبته من قلبه؛ فلا يمكن أن يكون سيدان في البيت ولا يملك سيدان على القلب. المسيح فقط.
٣. علم أن هناك مساكين في الأرض. فقد عاش قبلاً بلا قلب وكان قاسيًا، وصار له قلب رحيم يعطف حتى بنصف أمواله.
٤. صار ذا ضمير يقظ، وها هو على استعداد أن يرد ما ظلم به حتى إلى أربعة أضعاف!
٥. صار زكا العشار إنسانًا جديدًا. فقد ولد من الله «إِذًا إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي الْمَسِيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ: الأَشْيَاءُ الْعَتِيقَةُ قَدْ مَضَتْ، هُوَذَا الْكُلُّ قَدْ صَارَ جَدِيدًا» (٢كورنثوس٥: ١٧).
والحقيقة أنه عندما يدخل النور فلا ظلام وعندما يسود المسيح فلا مكان للشيطان ولا شرور في قلب غسله المسيح بدمه الطاهر. يا له من سيد عظيم. ويا له من يوم خلاص مُفرح.
قال الرب يسوع معقبًا «الْيَوْمَ حَصَلَ خَلاَصٌ لِهذَا الْبَيْتِ، إِذْ هُوَ أيضًا ابْنُ إِبْرَاهِيمَ، لأَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ قَدْ جَاءَ لِكَيْ يَطْلُبَ وَيُخَلِّصَ مَا قَدْ هَلَكَ». يا لها من نهاية سعيدة في مدينة ملعونة وشخص خاطئ مكروه. أليس هذا هو عمل المسيح الكامل؟
صديقي.. صديقتي
هل أنت في كورة بعيدة؛ في شر وبُعد وموت؟ هل يسود عليك سادة قساة دمروا حياتك وأتلفوا قلبك؟
ها المسيح يرسل صوتًا يجتاز في كل الأرض ويخترق كل قلب: لأن ابن الإنسان قد جاء لكي يطلب ويخلص ما قد هلك. فالرب يدعو الخطأة. ويعِد بأفراح الخلاص. فلا تحيا حزينًا بعيدًا عن دفء محبته. تعالَ الآن. كما أنت. فقط تعال.