ذات صباح أمسكت بكتابي المقدس، وجلست لأقرأ فيه وكانت القراءة في إنجيل مرقس والأصحاح الأول، وفاجئني الرب بفكرة رائعة أخذتني بشدة في ذلك الصباح؛ وجدت في هذا الأصحاح ثلاثة أنواع من الحريات التي يمكن لكل مؤمن أن يتمتع بها ويحق له أن يهتف من كل قلبه: أنا حُر!
١- حرية من الاحتياجات الأساسية تجعلك قويًا مؤثرًا
رأيت هذا النوع من الحرية في يوحنا المعمدان، المكتوب عنه في هذا الأصحاح: «وَكَانَ يُوحَنَّا يَلْبَسُ وَبَرَ الإِبِلِ، وَمِنْطَقَةً مِنْ جِلْدٍ عَلَى حَقْوَيْهِ، وَيَأْكُلُ جَرَادًا وَعَسَلاً بَرِّيًّا» (مرقس١: ٦). كان يوحنا يتمتع بحرية خاصة من الاحتياجات الأساسية؛ كالأكل والشرب والملبس. لم يَدَع هذه الأمور تستعبده. كان مكتفيًا بما يعطيه القدرة على الحياة فقط. لم يكن باحثًا عن الرفاهية، والأكلات المتنوعة، والملابس الفاخرة البهية. لم يسمح لهذه الأمور أن تتسلط عليه. فكان قويًا، مؤثرًا، وقادرًا على مواجهة الجميع دون خوف أو محاباة. لدرجة أنه واجه هيرودس بخصوص هيروديا امرأة فيلبس أخيه قائلاً: «لاَ يَحِلُّ أَنْ تَكُونَ لَكَ» (متى١٤: ٣، ٤). لم يَخَف من إعلان الحقيقة كاملة.
في هذا الوقت كان الجميع يهابون الفريسيين والصدوقيين، لكن يوحنا المعمدان لم يكن كبقية الناس فأعلن لهم حقيقة أنفسهم دون خوف وبلا تردد: «يَا أَوْلاَدَ الأَفَاعِي، مَنْ أَرَاكُمْ أَنْ تَهْرُبُوا مِنَ الْغَضَب الآتِي؟» (متى٣: ٧).
لم يَخَف يوحنا المعمدان من الموت، لأنه عاش ميتًا عن كل احتياج أرضي، وكل مطلب أساسي. ومن يستطيع أن يستعبد إنسانًا حُرًا لم يُستَعبد يومًا لشيء؟
والعكس صحيح أيضًا؛ أكثر الناس عُرضة للاستعباد، والسقوط في بئر الخوف هم الذين استُعبدوا للأكل والشرب والملبس. الذين يخافون على أنفسهم وعلى حياتهم لهذا كانت دعوة المسيح لأتباعه: «لاَ تَهْتَمُّوا لِحَيَاتِكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَبِمَا تَشْرَبُونَ، وَلاَ لأَجْسَادِكُمْ بِمَا تَلْبَسُونَ» (متى٦: ٢٥). فما أروع أن نعيش أحرارًا بلا هم ولا اهتمام يستعبدنا، ويحني رؤوسنا.
٢- حرية من الارتباطات الأرضية تجعلك صاحب قرار
الحرية الثانية في هذا الأصحاح رأيتها في سمعان وأندرواس مكتوب عنهما: «وَفِيمَا هُوَ يَمْشِي عِنْدَ بَحْرِ الْجَلِيلِ أَبْصَرَ سِمْعَانَ وَأَنْدَرَاوُسَ أَخَاهُ يُلْقِيَانِ شَبَكَةً فِي الْبَحْرِ، فَإِنَّهُمَا كَانَا صَيَّادَيْنِ. فَقَالَ لَهُمَا يَسُوعُ: “هَلُمَّ وَرَائِي فَأَجْعَلُكُمَا تَصِيرَانِ صَيَّادَيِ النَّاسِ”. فَلِلْوَقْتِ تَرَكَا شِبَاكَهُمَا وَتَبِعَاهُ» (مرقس١: ١٦–١٨).
كان سمعان وأندراوس في وضع مختلف عن يوحنا المعمدان. فقد كانا يعملان في مهنة الصيد، بينما كان المعمدان خادمًا مُكرسًا لله دون عمل أرضي. لكن كانا يتميزان بأنهما لم يكونا مستَعبدين للعمل، العمل بالنسبة لهما كان مجرد مهنة يحصلان من خلالها على قوتهما، دون تعلُّق أو استعباد. كان هذا واضحًا عند دعوة الرب لهما. فقد تركا الشِبَاك وتبعاه. كانا يُصلحان الشِباك، لكن الشباك لم تشبُك قلبيهما. كانا يُمسكان بها لكنها لم تُمسك بهما. بل كانا على استعداد بأن يلقيا بها فور سماع الدعوة من المسيح.
متى العشار كان مثالاً رائعًا لهذا الأمر أيضًا؛ فقد ترك كل شيء وتبع المسيح فور سماعه للدعوة منه حينما قال له: «اتْبَعْنِي» (متى٩: ٩). وهذه ليست مجرد دعوة لترك العمل والتفرغ لخدمة الرب، بقدر ما هي دعوة لتغيير كل الحياة، والتحول من الاهتمام بأمور العالم، للتكريس الكامل لله.
٣- حرية من الأمجاد العالمية، والمطامع الشخصية تجعلك مختلفًا وصاحب رؤية
المثال الثالث نراه في سيدنا الغالي الكريم ومثالنا الأمثل في الخدمة؛ الرب يسوع المسيح. نقرأ معًا هذا الأمر الذي حدث بينه وبين تلاميذه: «وَلَمَّا وَجَدُوهُ قَالُوا لَهُ: “إِنَّ الْجَمِيعَ يَطْلُبُونَكَ”. فَقَالَ لَهُمْ: “لِنَذْهَبْ إِلَى الْقُرَى الْمُجَاوِرَةِ لأَكْرِزَ هُنَاكَ أَيْضًا، لأَنِّي لِهذَا خَرَجْتُ”. فَكَانَ يَكْرِزُ فِي مَجَامِعِهِمْ فِي كُلِّ الْجَلِيلِ وَيُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ» (مرقس١: ٣٧، ٣٨).
من أكثر الفخاخ التي يتعرض لها الخادم كل يوم، وتكون سببًا في سقوطه؛ الجري وراء المكاسب الشخصية، والأمجاد الأرضية. فالخادم عُرضَة للسقوط في بئر الشهرة، والمجد الأرضي. أو على الأقل التأثُّر باحتياج الناس، والسير وراء طلب الناس له. لكن المسيح، كالخادم الكامل، لم يكن من هذا النوع. وفي الأصحاح ذاته يعطي لنا السر وراء التمتع بهذا النوع من الحرية؛ يقول لنا الروح القدس: «
وَفِي الصُّبْحِ بَاكِرًا جِدًّا قَامَ وَخَرَجَ وَمَضَى إِلَى مَوْضِعٍ خَلاَءٍ، وَكَانَ يُصَلِّي هُنَاكَ» (مرقس١: ٣٥). كان المسيح – كالخادم - لا يتحرك بأصوات الناس، ولا باحتياجهم.
الله وحده هو الذي يعلم أين يجب أن تذهب. هو صاحب الخدمة والقائد الوحيد لك. وإن لم تسمع له فأنت لست خادمًا حقيقيًا، ولا تتمتع بالحرية التي لك في المسيح. بولس الخادم الرائع أعلن بوضوح أنه غير مُستعبَد للناس (غلاطية١: ١٠)، وإن كان يُرضي الناس فهو لم يعد عبدًا للمسيح.
الحرية من آراء الناس، ومن المطامع الشخصية تجعلك قويًا، صاحب رؤية خاصة، مميَّزًا في خدمتك. حيث إنك تتبع الله وحده رب الخدمة وسيدك الذي لا يصنع نسخًا مُكرّرة، بل خدامًا متميزين لكل واحد موهبة، وقوة، وتأثير خاص. يقيم موسى، ومن بعده يشوع المختلف كليًا عن موسى. يقيم إيليا، ومن بعده أليشع. يقيم بولس وأبلوس وصفا. كل منهم بتأثير مختلف، وخدمة خاصة.
أدعوك قارئي العزيز أن تحيا حريتك في المسيح، وتعيش بالدعوة التي دعاك بها، وتتبع السيد وحده دون سواه. واثقًا في خطته العجيبة لحياتك؛ عِش عبدًا للمسيح، لتتمتع بالحرية الحقيقية.