وصلنا في رحلتنا عبر “جميع الكتب” إلى أسفار الأنبياء، أشرنا في المقال السابق أنه هناك ١٧ سفرًا نبويًا في العهد القديم وهذه الـ ١٧ سفرًا تنقسم لمجموعتين كبيرتين، المجموعة الأولى تُسمى “الأنبياء الكبار”، وهي: إشعياء، وإرميا (ويُضاف له مراثي إرميا)، وحزقيال، ودانيآل. والمجموعة الثانية تُسمى “الأنبياء الصغار”، وتشمل ال ١٢ سفرًا من هوشع إلى ملاخي.
السبب في هذه التسمية: كبار وصغار، هو مدى النبوة. تنبأ الأنبياء الكبار عن شعوب مختلفة والنطاق الزمني لنبواتهم متسع يمتد لمئات وأحيانًا آلاف السنين.
نتوقف في هذا المقال قليلاً عند الأنبياء الكبار.
تتحدث هذه النبوات عن ثلاثة موضوعات رئيسية: وهي المسيح، وشعب إسرائيل، والأمم. بها نبوات شهيرة عن ميلاد المسيح (وأشهرها إشعياء٩: ٦؛ ٧: ١٤)، كذلك عن حياته ثم موته وقيامته (مثل إشعياء٥٣)، مجده ومُلكه (مثل دانيآل٧: ٩-١٤). بها أيضًا أشهر النبوات الخاصة بشعب اسرائيل سواء سبيهم لبابل لمدة سبعين سنة (إرميا٢٩: ١٠)، ونبوة السبعين أسبوع (دانيآل٩: ٢٤-٢٧) التي تحكي تاريخهم ومستقبلهم في بضعة سطور. أيضًا بهذه الأسفار نبوات عن ممالك العالم مثل مصر (مثلاً إشعياء٩؛ حزقيال٢٩-٣٣)، وبابل وآشور وموآب وآدوم وغيرهم.
وبالرغم من وجود مشابهات بين هذه الأسفار إلا أنه هناك تمايز فيما بينها في طابع كل نبوة وموضوعها. نبوة إشعياء طابعها وعظي تشجيعي، وإرميا طابعها توبيخي تحذيري، أما مراثي إرميا فهي مرثاة حزينة، وكلاً من حزقيال ودانيآل طابعهما رؤوي تصويري.
في كلامهم عن شعب إسرائيل، تحدث إشعياء عن مرض الشعب: «عَلَى مَ تُضْرَبُونَ بَعْدُ؟ تَزْدَادُونَ زَيَغَانًا! كُلُّ الرَّأْسِ مَرِيضٌ، وَكُلُّ الْقَلْبِ سَقِيمٌ. مِنْ أَسْفَلِ الْقَدَمِ إِلَى الرَّأْسِ لَيْسَ فِيهِ صِحَّةٌ، بَلْ جُرْحٌ وَأَحْبَاطٌ وَضَرْبَةٌ طَرِيَّةٌ لَمْ تُعْصَرْ وَلَمْ تُعْصَبْ وَلَمْ تُلَيَّنْ بِالزَّيْتِ» (إشعياء١: ٥، ٦).
أما إرميا فقد تحدث عن خيانة الشعب للرب إلهه، «حَقًّا إِنَّهُ كَمَا تَخُونُ الْمَرْأَةُ قَرِينَهَا، هكَذَا خُنْتُمُونِي يَا بَيْتَ إِسْرَائِيلَ، يَقُولُ الرَّبُّ» (إرميا٣: ٢٠).
وحزقيال، بصفته كاهنًا للرب، تحدث عن نجاسة الشعب، فمثلاً يقول في حزقيال١٦: ١-٤ «وَكَانَتْ إِلَيَّ كَلِمَةُ الرَّبِّ قَائِلَةً: يَا ابْنَ آدَمَ، عَرِّفْ أُورُشَلِيمَ بِرَجَاسَاتِهَا، وَقُلْ: هكَذَا قَالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ لأُورُشَلِيمَ: مَخْرَجُكِ وَمَوْلِدُكِ مِنْ أَرْضِ كَنْعَانَ. أَبُوكِ أَمُورِيٌّ وَأُمُّكِ حِثِّيَّةٌ. أَمَّا مِيلاَدُكِ يَوْمَ وُلِدْتِ فَلَمْ تُقْطَعْ سُرَّتُكِ، وَلَمْ تُغْسَلِي بِالْمَاءِ لِلتَّنَظُّفِ، وَلَمْ تُمَلَّحِي تَمْلِيحًا، وَلَمْ تُقَمَّطِي تَقْمِيطًا».
أما دانيآل، الذي كان من السبط الملكي، فقد كان مشغولاً بالحديث عن ضياع السلطة من الشعب حيث خضع الشعب لملِك بابل نبوخذ نصر «أَنْتَ أَيُّهَا الْمَلِكُ مَلِكُ مُلُوكٍ، لأَنَّ إِلهَ السَّمَاوَاتِ أَعْطَاكَ مَمْلَكَةً وَاقْتِدَارًا وَسُلْطَانًا وَفَخْرًا. وَحَيْثُمَا يَسْكُنُ بَنُو الْبَشَرِ وَوُحُوشُ الْبَرِّ وَطُيُورُ السَّمَاءِ دَفَعَهَا لِيَدِكَ وَسَلَّطَكَ عَلَيْهَا جَمِيعِهَا» (دانيآل٢: ٣٧، ٣٨).
وكما تحدَّث هؤلاء الأنبياء عن حالة الشعب والقضاء عليهم تحدثوا أيضًا عن رجائهم وبركتهم؛ فإشعياء تحدث عن شفاء الشعب بعد توبته ورجوعه للرب في المستقبل ورجوع الرب لهم: «كَإِنْسَانٍ تُعَزِّيهِ أُمُّهُ هكَذَا أُعَزِّيكُمْ أَنَا، وَفِي أُورُشَلِيمَ تُعَزَّوْنَ. فَتَرَوْنَ وَتَفْرَحُ قُلُوبُكُمْ، وَتَزْهُو عِظَامُكُمْ كَالْعُشْبِ، وَتُعْرَفُ يَدُ الرَّبِّ عِنْدَ عَبِيدِهِ، وَيَحْنَقُ عَلَى أَعْدَائِهِ» (إشعياء٦٦: ١٣، ١٤).
وإرميا تحدث عن تجديد العهد، «هَا أَيَّامٌ تَأْتِي، يَقُولُ الرَّبُّ، وَأَقْطَعُ مَعَ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ وَمَعَ بَيْتِ يَهُوذَا عَهْدًا جَدِيدًا. لَيْسَ كَالْعَهْدِ الَّذِي قَطَعْتُهُ مَعَ آبَائِهِمْ يَوْمَ أَمْسَكْتُهُمْ بِيَدِهِمْ لأُخْرِجَهُمْ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ، حِينَ نَقَضُوا عَهْدِي فَرَفَضْتُهُمْ، يَقُولُ الرَّبُّ. بَلْ هذَا هُوَ الْعَهْدُ الَّذِي أَقْطَعُهُ مَعَ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ بَعْدَ تِلْكَ الأَيَّامِ، يَقُولُ الرَّبُّ: أَجْعَلُ شَرِيعَتِي فِي دَاخِلِهِمْ وَأَكْتُبُهَا عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَأَكُونُ لَهُمْ إِلهًا وَهُمْ يَكُونُونَ لِي شَعْبًا. وَلاَ يُعَلِّمُونَ بَعْدُ كُلُّ وَاحِدٍ صَاحِبَهُ، وَكُلُّ وَاحِدٍ أَخَاهُ، قَائِلِينَ: اعْرِفُوا الرَّبَّ، لأَنَّهُمْ كُلَّهُمْ سَيَعْرِفُونَنِي مِنْ صَغِيرِهِمْ إِلَى كَبِيرِهِمْ، يَقُولُ الرَّبُّ، لأَنِّي أَصْفَحُ عَنْ إِثْمِهِمْ، وَلاَ أَذْكُرُ خَطِيَّتَهُمْ بَعْدُ» (إرميا٣١: ٣١-٣٤).
وتحدث حزقيال عن الرد الديني متمثلاً في بناء الهيكل الجديد وعودة مجد الرب له، وَقَالَ لِي: «يَا ابْنَ آدَمَ، هذَا مَكَانُ كُرْسِيِّي وَمَكَانُ بَاطِنِ قَدَمَيَّ حَيْثُ أَسْكُنُ فِي وَسْطِ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى الأَبَدِ، وَلاَ يُنَجِّسُ بَعْدُ بَيْتُ إِسْرَائِيلَ اسْمِي الْقُدُّوسَ، لاَ هُمْ وَلاَ مُلُوكُهُمْ، لاَ بِزِنَاهُمْ وَلاَ بِجُثَثِ مُلُوكِهِمْ فِي مُرْتَفَعَاتِهِمْ» (حزقيال٤٣: ٧).
وتحدث دانيآل عن الرد السياسي، أي مُلك المسيا على شعبه وحُكمه للأرض من خلالهم: «كُنْتُ أَرَى فِي رُؤَى اللَّيْلِ وَإِذَا مَعَ سُحُبِ السَّمَاءِ مِثْلُ ابْنِ إِنْسَانٍ أَتَى وَجَاءَ إِلَى الْقَدِيمِ الأَيَّامِ، فَقَرَّبُوهُ قُدَّامَهُ. فَأُعْطِيَ سُلْطَانًا وَمَجْدًا وَمَلَكُوتًا لِتَتَعَبَّدَ لَهُ كُلُّ الشُّعُوبِ وَالأُمَمِ وَالأَلْسِنَةِ. سُلْطَانُهُ سُلْطَانٌ أَبَدِيٌّ مَا لَنْ يَزُولَ، وَمَلَكُوتُهُ مَا لاَ يَنْقَرِضُ» (دانيآل٧: ١٣، ١٤).
تكلم إشعياء عن خلاص الله، وإرميا عن قضاء الله، وحزقيال عن مجد الله، ودانيآل عن ملكوت الله ويمكننا استنتاج ذلك من ملاحظة أكثر الكلمات التي تكررت بهذة الأسفار.
يُعرف إشعياء بالنبي الإنجيلي، ونبوته تُعرف بالإنجيل الخامس لما فيها من أخبار سارة وتعزية. وإرميا بالنبي الباكي، فهو صاحب القول الشهير: «يَا لَيْتَ رَأْسِي مَاءٌ، وَعَيْنَيَّ يَنْبُوعُ دُمُوعٍ، فَأَبْكِيَ نَهَارًا وَلَيْلاً قَتْلَى بِنْتِ شَعْبِي» (إرميا٩: ١). ويُعرف حزقيال برجل الرؤى، أما دانيآل فُيسمى بـ“نبي أزمنة الأمم”. وسنفهم ذلك أكثر عند تناولنا لكل سفر على حدة.
بقيت ملاحظة أخيرة هامة لفهم هذه الأسفار وكل النبوات في الكتاب، وهي أن مجيء المسيح الثاني يشمل عدة أحداث، يمكننا من دراسة الكتاب أن نستنتج ترتيبها، تبدأ هذه الأحداث باختطاف الكنيسة وقيامة الراقدين أو قيامة الأبرار، ويعقبها فترة سبع سنين يوقع فيها الرب القضاء على الأرض، وهي فترة مبتدأ الأوجاع ثم الضيقة العظيمة، يلي ذلك ظهور الرب بالمجد والقوة ليدين الأحياء وليملك لمدة ألف سنة، ثم دينونة الأموات، وبعد ذلك تبدأ الحالة الأبدية.
إن دراسة النبوة ترفع العين والقلب من الحاضر إلى المستقبل ومما هو زائل ومؤقت إلى ما هو باقٍ وأبدي!
نلتقي في العدد القادم مع نبوة إشعياء إن تأنى الرب في مجيئه.