واحدة من الأمور المحيِّرة للأتقياء، في الماضي والحاضر، هذا السؤال: لماذا ينجح الشرير في أموره الزمنية، بل ويتفوق أحيانًا كثيرة، بما لا يقاس، عن التقي الأمين للرب؟! لقد كان هذا مُحيرًا لأعظم رجال الله عبر كل العصور، ولنا أيضًا.
لكن هل هذا الأمر مطلق؟ فهل على طول الطريق أن المؤمنين أقل من الأشرار؟ وهل الأتقياء ليس لهم رغد العيش؟ أسئلة كثيرة سنحاول أن نتلمس إجابتها من كلمة الله.
أولاً: ليس كل الأشرار ميسورين وليس كل المؤمنين فقراء.
لنتحذر من التعميم! البعض يقنع نفسه مثلاً أن كل الأشرار ظروفهم رائعة، بينما كل المؤمنين في شظف العيش. فإبراهيم أبو المؤمنين كان قيل عنه: «وَكَانَ ابْرَامُ غَنِيّا جِدّا فِي الْمَوَاشِي وَالْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ» (تكوين١٣: ٢). ويوسف الرامي، الذي وهب قبره لدفن جسد يسوع، كان «رَجُلٌ غَنِيٌّ مِنَ الرَّامَةِ اسْمُهُ يُوسُفُ - وَكَانَ هُوَ أَيْضًا تِلْمِيذًا لِيَسُوعَ» (متى٢٧: ٥٧).
لنتحذر، فإن الهدف من وراء هذا الفكر المتمرِد والمتشكِك هي محاولة الشيطان للتشكيك في صلاح الله. يحاول العدو إقناعنا بأنه ليس بعادل - حاشا لله - بين البشر.
ثانيًا: ما هو السر وراء هذه النظرة التشاؤمية؟
كثيرون منا لا يرون إلا نصف الحقيقة، وهي أن الرب ترك الأشرار على راحتهم وها هم أغنياء، وكما وصفهم آساف بالقول: «لَيْسُوا فِي تَعَبِ النَّاسِ وَمَعَ الْبَشَرِ لاَ يُصَابُونَ» (مزمور٧٣: ٥). والواقع أن هذه ليست الحقيقة. فآساف اكتشف أنه مخطئ وحكمه خاطئ على الأمور، والسبب أنه كان بعيدًا عن محضر الله والشركة معه، وما أن دخل هناك حتى اكتشف الأمور على حقيقتها. فقال آساف معترِفًا: «حَتَّى دَخَلْتُ مَقَادِسَ اللهِ وَانْتَبَهْتُ إِلَى آخِرَتِهِمْ... كَيْفَ صَارُوا لِلْخَرَابِ بَغْتَةً!»، بل وأقر بأنه لا يفهم ولا يعرف قائلاً: «وَأَنَا بَلِيدٌ وَلاَ أَعْرِفُ. صِرْتُ كَبَهِيمٍ عِنْدَك» (مزمور٧٣: ١٧-٢٢).
فكلما كنا قريبين من الرب وكلمته، كلما زاد اقتناعنا بصلاح الله وحكمته؛ فهو يعرف ماذا ولماذا يفعل أو لا يفعل. كما قال أيوب يومًا: «الرَّبُّ أَعْطَى وَالرَّبُّ أَخَذَ فَلْيَكُنِ اسْمُ الرَّبِّ مُبَارَكًا» (أيوب١: ٢١). وكما قال أيضًا داود: «الرَّبُّ بَارٌّ فِي كُلِّ طُرُقِهِ» (مزمور١٤٥: ١٧).
ثالثًا: لماذا ينجح الأشرار؟
قد يبدو هذا أمرًا مُحيرًا للكثيرين، فقد حيّر آساف وسجَّل لنا اختباره المرير. كما أيضًا تسائل إرميا لله قائلًا: «لِمَاذَا تَنْجَحُ طَرِيقُ الأَشْرَارِ؟ اطْمَأَنَّ كُلُّ الْغَادِرِينَ غَدْرًا» (إرميا١٢: ١). إن حقيقة الأمور سنعرفها جليًا في مجيء الرب، لكن لنا الآن في كلمة الله بعض الإجابات:
١. قد يسمح الرب للأشرار بغنى وفير ورغد العيش لأن هذا هو كل حياتهم وهدفهم في الوجود. ولا ننسَ أنهم هم أيضًا خليقة الله: «فَإِنَّهُ يُشْرِقُ شَمْسَهُ عَلَى الأَشْرَارِ وَالصَّالِحِينَ، وَيُمْطِرُ عَلَى الأَبْرَارِ وَالظَّالِمِينَ» (متى٥: ٤٥).
٢. وقد يسمح لهم بذلك حتى لا يكون لهم عذر في يوم الدينونة، أن الله قد حرمهم من شيء. ألم يقُل إبراهيم للغني وهو في الهاوية: «يَا ابْنِي اذْكُرْ أَنَّكَ اسْتَوْفَيْتَ خَيْرَاتِكَ فِي حَيَاتِكَ» (لوقا١٦: ٢٥).
٣. وقد يكون هذا الرغد من العيش هو وسيلة ورسالة من الله، لغة يفهمها الأشرار بأن الله يظهر محبته ومراحمه لهم حتى يجتذبهم إليه. فيقول الرب في سفر هوشع عن معاملاته مع الناس بصفة عامة وشعبه البعيد بصفة خاصة: «كُنْتُ أَجْذِبُهُمْ بِحِبَالِ الْبَشَرِ بِرُبُطِ الْمَحَبَّةِ وَكُنْتُ لَهُمْ كَمَنْ يَرْفَعُ النِّيرَ عَنْ أَعْنَاقِهِمْ وَمَدَدْتُ إِلَيْهِ مُطْعِمًا إِيَّاهُ» (هوشع١١: ٤). فلقد تأثر سجان فيلبي القاسي من إحسان الله إذ لم يدَع المسجونين يهربون من السجن مما جعله يصرخ لبولس وسيلا قائلاً: «يَا سَيِّدَيَّ مَاذَا يَنْبَغِي أَنْ أَفْعَلَ لِكَيْ أَخْلُصَ؟» (أعمال١٦: ٣٠).
ليتك تتجاوب مع إحسانات الله لك صديقي، إنها صوت المحبة ليجتذبك إليه لتنال خلاصًا أبديًا وغفرانًا لخطاياك بدم المسيح قبل فوات الأوان.
رابعًا: كيف أحمي نفسي من التشكُّك في صلاح الله؟
١. ثق أن الله أبونا محبٌ وحكيمٌ قال عنه بولس: «اَللهُ الَّذِي هُوَ غَنِيٌّ فِي الرَّحْمَةِ، مِنْ أَجْلِ مَحَبَّتِهِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي أَحَبَّنَا بِهَا» (أفسس٢: ٤)، فمن فرط محبته قدَّم ابنه لأجلنا؛ فكيف لا يهبنا أيضًا معه كل شيء؟ لكنه في ذات الوقت هو ”حكيم القلب“ يعرف متى يمنح ومتى يمنع.
٢. كثيرًا ما يحاول الله أبونا تهذيبنا والارتقاء بأفكارنا ومستوى إدراكنا، لكي نقتنع بأننا سماويون ولسنا أرضيين، أننا لسنا كالأشرار الذين إلههم بطنهم الذين يفتكرون في الأرضيات. فيسمح لنا أن ندخل في تدريبات قد تبدو قاسية، نُحرم فيها أحيانا من بعض الأمور الأرضية. وهذا الذي يجعلنا نظن أن الأشرار أوفر حظًا من المؤمنين، لأن الأشرار لا يدخلون في تدريبات بينما أولاد الله يجتازون تدريبات صعبة. لكن ما أن نتدرب وننجح، يملأ إلهنا كل احتياجنا بحسب غناه في المجد.
٣. نحتاج إلى الصبر وإلى الفهم أيضًا. الصبر يجعلنا نحتمل التدريب بشكر ورضى «عَالِمِينَ أَنَّ امْتِحَانَ إِيمَانِكُمْ يُنْشِئُ صَبْرًا... لِكَيْ تَكُونُوا تَامِّينَ وَكَامِلِينَ غَيْرَ نَاقِصِينَ فِي شَيْءٍ» (يعقوب١: ٤،٣). كما أننا نحتاج للفهم لمعاملات الله التي لخيرنا «مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ لاَ تَكُونُوا أَغْبِيَاءَ، بَلْ فَاهِمِينَ مَا هِيَ مَشِيئَةُ الرَّبِّ» (أفسس٥: ١٧).
٤. أخيرًا لنستمع إلى النصيحة الإلهية: «لاَ تَغَرْ مِنَ الأَشْرَارِ وَلاَ تَحْسِدْ عُمَّالَ الإِثْم فَإِنَّهُمْ مِثْلَ الْحَشِيشِ سَرِيعًا يُقْطَعُونَ وَمِثْلَ الْعُشْبِ الأَخْضَرِ يَذْبُلُونَ... انْتَظِرِ الرَّبَّ وَاصْبِرْ لَهُ وَلاَ تَغَرْ مِنَ الَّذِي يَنْجَحُ فِي طَرِيقِهِ» (مزمور٣٧: ٧،٢،١).
ليتنا نأتي بأسئلتنا، والتي يُرحب بها الرب، إلى محضره وكلمته؛ فنجد ما يريح قلوبنا وينير أذهاننا. ولا نترك أنفسنا فريسة لتشكيكات العدو، بل وأيضًا دعونا نحفظ أفكارنا في خوذة الخلاص ونحفظ قلوبنا في محبة الله.