ثامنًا وأخيرًا، بالمقارنة مع الملك يوثام
«وَعَمِلَ مَا هُوَ مُسْتَقِيمٌ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ. عَمِلَ حَسَبَ كُلِّ مَا عَمِلَ عُزِّيَّا أَبُوهُ» (٢ملوك١٥: ٣٤)، «وَتَشَدَّدَ يُوثَامُ لأَنَّهُ هَيَّأَ طُرُقَهُ أَمَامَ الرَّبِّ إِلهِهِ» (٢أخبار٢٧: ٦).
لم يحِد يوثام من وراء الرب كجدّه أمصيا، ولا ارتفع قلبه وخان الرب كأبيه عزيّا، ومع ذلك لا يُكتب عنه أنه عمل المستقيم كداود أبيه! وإن كنّا لا نعرف السبب وراء ذلك بالتحديد، فإن الرب يعلمه بالتأكيد، «لأَنَّ الرَّبَّ يَفْحَصُ جَمِيعَ الْقُلُوبِ، وَيَفْهَمُ كُلَّ تَصَوُّرَاتِ الأَفْكَارِ» (١أخبار٢٨: ٩).
وبالرغم من إنجازات يوثام في البناء والنصرة على الأعداء، إلا أن الشعب في أيامه كانوا يذبحون ويوقدون - لآلهة غريبة - ويُفسدون، مما مهدَّ سبيلاً لابنه الشرير آحاز الذي أجمح يهوذا وتمادى في فعل الشر جدًا، فأغلق أبواب بيت الرب ومارس العبادات الوثنية بكل أشكالها حتى أنه عبَّر بنيه في النار، وهو ما أدَّى بهم للوقوع تحت طائلة غضب الرب. لم يستخدم يوثام سلطانه الملكي في عزمٍ وإصرار على خلع ونزع وقَطْع وكسر وحرق ودق وهدم وإزالة وإبادة وإفناء وملاشاة المذابح والتماثيل وكل ما ليس له علاقة بعبادة الله الحي كما فعل الملوك الثلاثة (آسا وحزقيا ويوشيا) الذين قادوا شعبهم للدخول في عهد مع الرب إلههم لعبادته بكل قلوبهم وكل أنفسهم، فوصلوا لمقياس الله.
ولا زال لدى الله مشيئة صالحة لكل جيل، وهو يمنحنا سلطانًا ودائرة تأثير - فكل منّا ملكًا بمعنى ما - فإن كانت قلوبنا كاملة في خضوعٍ تامٍ لسلطانه، فإنه يعلن لنا مشيئته ويهبنا كل ما يلزم لتنفيذها.
وبالحديث عن يوثام نكون قد وصلنا لآخر الملوك الذين عملوا المستقيم في عيني الرب، ولكن ليس كداود أبيهم. ولقد تحدثنا في المرات السابقة عن بعض سمات القلب الكامل التي تميَّز بها داود دونًا عن سائر الملوك. فأكثر من مرة يُسجل الوحي عن داود أن قلبه كان كاملاً مع الرب إلهه، لذا وجده الله رجلاً حسب قلبه.
والشخص ذو القلب الكامل يتميز أولاً، بطاعته لله وفِعل كل مشيئته، وبالتالي يكون شخصًا نافعًا يخدم جيله بمشورة الله كما كُتبَ عن داود.
ثانيًا، الشخص ذو القلب الكامل يحمل قلبًا مستقيمًا. وليس معنى ذلك أنه لا يخطئ، لكنه لا يتمادى في خطئه، بل يتوب ويعوّم كل ليلة سريره بدموعه إلى أن تُرد له بهجة خلاصه. إذ أنه لا يحتمل البقاء في غياهب الطرق الجانبية المُظلِمة، ولا يرضى بديلاً عن نور محضر الرب وابتسامة وجهه. ولذلك فهو يحمل قلبًا تائبًا خاضعًا للفحص والامتحان، ولا يرى نفسه غير قابل للمساءلة.
وثالثًا، هو الشخص ذو القلب المكتمل والمنفصل لله وحده، فلا يرضى بالولاءات المتعددة، بل يحمل ولاءً لشخصٍ واحد، هو الله. لذا فقلبه موحَّد الغرض لا يضع نصبَ عينيه سوى هدفًا واحدًا، إذ يضع الرب أمامه في كل حين وعن يمينه فلا يتزعزع.
رابعًا، هو صاحب القلب المهيأ لطلب الله، الذي ينتظر الله وارشاداته ويتوقع بسكوت خلاص الله، لذا فقلبه ثابت، ممكَّن، متكل على الرب.
خامسًا، هو صاحب القلب النقي الذي لا يرضى بالزيف والمظاهر الجوفاء والشعارات الرنَّانة.
سادسًا، هو الشخص ذو القلب المُتضِع، والروح المنسحقة، والعين المنخفضة. وربما كانت هذه الصفة - تحديدًا - سر البركة في حياة داود، فالمياه دائمًا تجري في الأماكن الخفيضة. فلقد كان داود صغيًرا في عيني أبيه، صغيرًا في عيني نفسه، لكنه كان عزيزًا مكرمًا في عيني الله!
كانت هذه هي بعض الفضائل التي رآها الله عندما نظر مباشرةً إلى داخل قلب داود. وهو ما قاله الله لصموئيل عند اختيار داود ملكًا، «لأَنَّهُ لَيْسَ كَمَا يَنْظُرُ الإِنْسَانُ. لأَنَّ الإِنْسَانَ يَنْظُرُ إِلَى الْعَيْنَيْنِ، وَأَمَّا الرَّبُّ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ إِلَى الْقَلْبِ» (١صموئيل١٦: ٧)، وليتنا نتوقف إزاء كل فضيلة من فضائل هذا القلب الكامل الذي أرضى الله، ونفحص قلوبنا ونطلب مع داود: «اخْتَبِرْنِي يَا اَللهُ وَاعْرِفْ قَلْبِي. امْتَحِنِّي وَاعْرِفْ أَفْكَارِي. وَانْظُرْ إِنْ كَانَ فِيَّ طَرِيقٌ بَاطِلٌ، وَاهْدِنِي طَرِيقًا أَبَدِيًّا» (المزامير١٣٩: ٢٣، ٢٤).
ختامًا، يقولون إن طائر البجع ربما يعيش طوال عمره لا تُسمع منه أغنية واحدة، إنما فقط بعض الهمهمات المتفرقة بين الحين والآخر. ولكن حين تشارف حياته على الانتهاء، يذهب إلى ضفاف المياه، وهناك يفرد جناحيه عن آخرهما ويشدو بأغنية واحدة أخيرة هي أعذب أصواته جميعًا! لم تكن هذه الحالة مع غالبية الملوك الذين سبق وتحدثنا عنهم. بالعكس، فلقد غنّوا أفضل أغنياتهم في بداية حياتهم، لكن اختلفت أمورهم الأخيرة عن الأولى. لقد بدأوا حسنًا ولم ينتهوا كذلك!
والشيء اللافت للنظر أن جميعهم سقطوا بعدما ارتفعوا وتشدَّدوا وقووا على أعدائهم. فلم يسقط أحدًا منهم ويترك الرب لسبب هزيمة أو فقر أو احتياج!
والحقيقة أن الجسد الذي فينا قد يستخدم إحسانات الله وبركاته فرصةً للتحول عنه! وكذا ابليس لديه فخاخ متنوعة، وهو يعرف أسهل المداخل لقلب كل منَّا! «إِذًا مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ قَائِمٌ، فَلْيَنْظُرْ أَنْ لاَ يَسْقُطَ» (١كورنثوس١٠: ١٢).
لكن أيضًا، لم يُحرَم أيّ منهم من وجود الأنبياء الذين كلموهم بكلمة الرب، فلم تكن كلمة الرب عزيزة في أيامهم، لكن كانت المشكلة في رفضهم هم لها أو انحرافهم عنها. وإن كان داود وقلبه الكامل في السير مع الله هو مقياس الله للملوك، فماذا عن المقياس الذي وضعه الله لنا؟ «... إِلَى إِنْسَانٍ كَامِل. إِلَى قِيَاسِ قَامَةِ مِلْءِ الْمَسِيحِ» (أفسس٤: ١٣)، «... لِيَكُونُوا مُشَابِهِينَ صُورَةَ ابْنِهِ، لِيَكُونَ هُوَ بِكْرًا بَيْنَ إِخْوَةٍ كَثِيرِينَ» (رومية٨: ٢٩).
صديقي العزيز - بنهاية حديثنا - أودّ أن أُذكرّك بما قد بدأنا به، وهو أن الله أبونا لا زال يُميل أُذنه ويضعها على قلبي وقلبك منتظرًا أن يسمع لحنًا جديدًا شجيًا، هو نبضات قلب ابنه يسوع الذي ضحى به لأجلنا، الأمر الذي لن يتحقق عمليًا إلا إذا اقتربنا منه بحق، واستمعنا لنبضات قلبه المحب، فيتم فينا القول: «نَحْنُ نُحِبُّهُ لأَنَّهُ هُوَ أَحَبَّنَا أَوَّلاً» (١يوحنا٤: ١٩)، وعندها فقط تصبح قلوبنا كاملة معه، فنكون رجالاً ونساءً بحسب قلبه.
تمت