(١ملوك ٩: ١٩-٢١)
بينما كان إِيلِيَّا نائمًا تحت الرَّتَمَةِ، وقد استبد به اليأس، وهو يظن أن كل تعبه قد ذهب أدراج الريح، وأن كل سُبُل الله باءت بالفشل، في وسط شعب مُعاند جامح في الشر والفساد، كان هناك شابٌ رائع، اسمه “أَلِيشَعَ بْنَ شَافَاطَ” يَعدّه الله في الخفاء، في بلدته “آبَلَ مَحُولَةَ”، ويُجهزه للخدمة المُقدَّسة. وأمر الرب إِيلِيَّا أن يذهب راجعًا ليمسحه نبيًا (١ملوك١٩: ١-١٦). وهكذا يتغيَّر الناس، ويبقى الله. وهذا عين ما نشاهده الآن في جيلنا، إذ بين الحقول في القرى، وبين جماعات الطلبة في الكليات، وبين العمال في المصانع، هناك فتيان وضع الرب يده عليهم، للتكريس والتخصيص والتقديس، ليجعل منهم – بنعمته – مُبشرين ومُعلّمين ورعاة وخدامًا، يتحملون مسؤولية عمل الرب. وعلينا أن نتيقن أن الله مُتسلط في مملكة الناس، وأنه يدعو خدَّامه، بل والملوك والرؤساء، وكل ذي سلطان، وفقًا لمشيئته العليا وإرادته الكاملة، وهو – له كل المجد – يُسيطر على الخير والشر في كل مكان وزمان.
ليس من الواضح ما إذا كان إِيلِيَّا قد التقى بأليشع قبل هذه المناسبة أم لا. ولكنه إذ تحرَّك في طاعة لكلمة الرب، لم يجد صعوبة في العثور عليه (١ملوك١٩: ١٩-٢١). كان في الواقع واحدًا من سبعة آلاف في إسرائيل لم يركعوا على ركبهم لعبادة البعل. كانت الأوضاع في هذا الوقت متدهورة للأسف، ولكن في المناطق الريفية النائية، وفي غور الأردن الهادئ، وفي أماكن لا يكثر فيها الغرباء، مثل “آبَلَ مَحُولَةَ” (ع١٦)، لا بد أنه كان هناك العديد من البيوت التي لم تنحنِ فيها الركب للبعل، ومما لا شك فيه أن شَافَاط وابنه أَلِيشَع كانا من بين سبعة آلاف شاهد مُخلِص في إسرائيل. وكان واضحًا من هذا اللقاء الأول أن أليشع كان يتمتع بالصفات اللازمة لمواصلة عمل الرب.
كان مجتهدًا: من الواضح أن اثني عشر فَدَّانَ بَقَرٍ تعكس أبًا ثريًا ومزرعة كبيرة. ومع ذلك لم يكن أليشع ابنًا كسولاً متراخيًا. فعندما قابله إِيلِيَّا، كان في الحقل «يَحْرُثُ» (ع١٩). وكما حرث أليشع حقله الأرضي مع الاثني عشر فَدَّانَ بَقَرٍ، كان عليه الآن أن يحرث الحقل الروحي لأسباط إسرائيل الاثني عشر. كان، بلا شك، يتبع المحراث لسنوات عديدة، لكنه الآن كان عليه أن يتبع الرب في مهمة أعظم.
كان متواضعًا: فعلى الرغم من أن وضعه باعتباره ابنًا، إلا أنه لم يكن في المقدمة، ولكن في المؤخرة خلف الثيران (ع١٩). إن روح التواضع الداخلية هذه كانت تليق بالشخص الذي كان يجب أن يكون “صوت النعمة المُنْخَفِض الخَفِيف” (ع١٢).
كان حساسًا روحيًا: لا يبدو أن إِيلِيَّا قال أي شيء لأليشع في هذه المرحلة. ومع ذلك، أدرك أليشع معنى وأهمية ثوب إِيلِيَّا الذي أُلقي عليه. فمعنى إلقاء الرداء هو أن الشخص الذي أُلقِيَ عليه الرداء سيأخذ مكان الشخص الذي ألقى الرداء عليه ليعمل عمله. هكذا فأليشع الرجل المستنير الذهن، فهم الغرض من إلقاء الرداء عليه إذ نقرأ «فَتَرَكَ الْبَقَرَ وَرَكَضَ وَرَاءَ إِيلِيَّا» (ع٢٠). من الواضح أنه باعتباره واحد من السبعة آلاف الذين لم يتشربوا بشرور عبادة البعل، كان يتدرب بالظروف الراهنة المحيطة، وكان يتوق إلى رؤية خلاص الشعب من عبوديته.
كان ملتزمًا: كان رد أليشع فوري على طرح الرداء عليه (ع٢٠). وها هو يترك ثروته الواسعة، ويذبح فدان البقر، ويضع يده على المحراث، ولم يعد للمال سلطان على نفسه. ومع ذلك، فللوهلة الأولى، قد يبدو أن طلبه اللاحق إلى إِيلِيَّا يُظهر ترددًا من جانبه في الالتزام بالدعوة: «دَعْنِي أُقَبِّلْ أَبِي وَأُمِّي وَأَسِيرَ وَرَاءَكَ» (ع٢٠). ويبدو أيضًا أن رد إِيلِيَّا يؤكد أيضًا هذا الرأي: «فَقَالَ لَهُ: اذْهَبْ رَاجِعًا، لأَنِّي مَاذَا فَعَلْتُ لَكَ؟» (ع٢٠). والبعض يساوون طلبه بطلب الرجل الذي قال للرب يسوع: «أَتْبَعُكَ يَا سَيِّدُ، وَلكِنِ ائْذَنْ لِي أَوَّلاً أَنْ أُوَدِّعَ الَّذِينَ فِي بَيْتِي. فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: لَيْسَ أَحَدٌ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى الْمِحْرَاثِ وَيَنْظُرُ إِلَى الْوَرَاءِ يَصْلُحُ لِمَلَكُوتِ اللهِ» (لوقا٩: ٦١، ٦٢). إن هذا الرجل لم يكن أبوه قد مات حتى يدفنه، ولكنه أراد أن يؤجل الخدمة، حتى يموت أبوه، ويدفنه، ثم يذهب بعد ذلك لعمل الرب. ولكن أليشع كان يُريد أن يُلقي على أبيه قبلة الوداع، فهو مع وفائه لأبيه يُريد أن يُرسِل إليه تحيته الأخيرة، ولكل ما يُمكن أن يرثه عن هذا الأب. وعلى عكس الرجل الذي تكلَّم إليه الرب يسوع، لم تظهر كلماته وأفعاله اللاحقة أي تحفظ على اتباع إِيلِيَّا؛ لقد حرق المحراث الذي كان يحرث عليه دون أدنى تردد، كأنما ينسف جميع الكباري التي تربطه بالعالم، وهو يضع يده على محراث الله العظيم الذي دُعيَّ إليه! ولم يمنعه إيليا من أن يودع أبويه، وقد تركه ليقبل أو يرفض، وما أسرع ما عاد إلى أبيه الروحي، بعد الوداع والقبلة الأخيرة لأبيه في الجسد! وهكذا فالإيحاء بأن أليشع كان مذنبًا “بوَضَعُ يَدَهُ عَلَى الْمِحْرَاثِ وَالنْظُرُ إِلَى الْوَرَاءِ”، أمر قاس وغير مبرر:
فأولاً: إن طلبه لتوديع والديه أظهر التزامه بالانفصال عن جميع الروابط العائلية والعاطفية التي كان من شأنها أن تُعيقه (ع٢١). إنه تذكير بكلمات الرب يسوع للجموع العظيمة التي تبعته: «إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَيَّ وَلاَ يُبْغِضُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَامْرَأَتَهُ وَأَوْلاَدَهُ وَإِخْوَتَهُ وَأَخَوَاتِهِ، حَتَّى نَفْسَهُ أَيْضًا، فَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذًا» (لوقا١٤: ٢٦). وكان أليشع مُستعدًا لمثل هذه التضحية.
ثانيًا: إن أليشع «رَجَعَ مِنْ وَرَائِهِ وَأَخَذَ فَدَّانَ بَقَرٍ وَذَبَحَهُمَا، وَسَلَقَ اللَّحْمَ بِأَدَوَاتِ الْبَقَر» (ع٢١)، وعمله هذا يُصوِّر رجلاً كان حريصًا على الانفصال عن عمله السابق لكي يُكرس نفسه بالكامل لخدمة الرب.
ثالثًا: إن أليشع بعدما رجع وأخذ زوج البقر وذبحهما، وسلق لحمهما على خشب المحراث، وزعه على الشعب «أَعْطَى الشَّعْبَ فَأَكَلُوا» (ع٢١)، وبهذا أظهر تصميمه على أن العلاقات الطبيعية لن تمنعه من الاستجابة لدعوة الله.
لذلك يجب النظر إلى رد إِيلِيَّا على طلب إليشع في ضوء التعليقات المذكورة أعلاه. وقد كلفه الرب بمسح أليشع ليكون نبيًا. لذلك، كان من غير المعقول أنه كان يقترح عليه أن يعود إلى الوراء. فالجزء الأول من رده: «اذْهَبْ رَاجِعًا» (ع٢٠)، يُفهم على أفضل وجه على أنه إعطاء أليشع الإذن بالعودة وتوديع والديه؛ “اذهب فماذا يمنعك؟”. والنصف الثاني من رد إِيلِيَّا: «لأَنِّي مَاذَا فَعَلْتُ لَكَ؟»، هو أكثر صعوبة في التفسير. ربما كان ينصحه أن يتذكر ويفكر فيما فعله به عندما ألقي عليه ثوبه. ويُمكننا أن نقول إن كلمات إِيلِيَّا تعني: “اذْهَبْ، وارجع إليَّ، لأنني فعلت شيئًا مهمًا جدًا لك”. ولربما كان إِيلِيَّا يوضح أنه ليس هو نفسه؛ إِيلِيَّا، الذي دعا أليشع، بل الرب، وأن القرار هو لأليشع إذا كان يتبعه أم لا.
أيا كان التفسير الصحيح، فمنذ هذه النقطة فصاعدًا لم يكن هناك عودة إلى الوراء بالنسبة لإليشع: «ثُمَّ قَامَ وَمَضَى وَرَاءَ إِيلِيَّا وَكَانَ يَخْدِمُهُ» (ع٢١). من المؤثر حقًا ويُحرِّك المشاعر أن نرى إِيلِيَّا الوحيد والمرفوض من شعبه، وهو يتحرك في رفقة شاب ذو روح طيبة، رفض بثبات أن يتركه حتى يأخذه الرب إلى السماء (٢ملوك٢: ٢، ٤، ٦، ١١).