في إحدى المرات شرُفت بمرافقة دكتور عيون جميل وناجح، وأثناء عودتنا معًا من أحد المؤتمرات على أحد الطرق السريعة، لاحظت أنه رغم حداثة سيارته، لكنه لا يزيد من سرعتها فوق اللازم مثلما يفعل الآخرون.
فلما سألته عن السبب قال لي: أنا أستخدم مُثبِت السرعة في السيارة، وأضبطها على ١١٨ كم/ ساعة (لأن السرعة المقررة لهذا الطريق ١٢٠ كم/ ساعة)، وبعدها أرفع قدمي عن البنزين، وأكتفي بالفرامل عند الطوارئ.
فاستطردت وسألت: وهل هذا فقط من قِبل الخضوع للسُلطات و“الرادارات”؟ فرد عليَّ: هذا جانب، لكن من الجانب الآخر وجدت أنني لما استخدم هذه الخاصية أكون أكثر هدوءًا وطمأنينة، أثناء رحلة السفر وأيضًا بعد وصولي.
لكنني قاطعته، وأنا ألاحظ سيارة أخرى أقل إمكانيات من سيارته، ولكنها تسبقه. فقال لي بابتسامته المعهودة: لا شأن لي بمن يسبقني، ولن أضحي بهدوئي، ولا وقت الشركة مع أسرتي، وأسير الطريق على أعصابي، وعلى العموم كلنا “بنتقابل على الكارتة”.
وبالفعل بعد مرور بعض الوقت، وصلنا الكارتة (محطة تحصيل رسوم)، ووجدنا ذات السيارة التي كانت تسبقنا تقف معنا في ذات المكان، فابتسم لي قائلاً: مش قلتلك؟!
المعادلة الصعبة
القصة السابقة زرعت داخلي درسًا عميقًا، فالبشر يسيرون على طريق الحياة السريع، نحو إدراك أفضل ما فيها؛ فيهم مَن يلتزم بالسرعة المقررة، ولكن أغلبهم يزيدون منها، متسابقين مع بعضهم ومع الغلاء ومع الفرص وغيرها من متغيرات الحياة.
والحقيقة أنها معادلة صعبة تواجه الخريجين والآباء بصورة أكبر، وكل منهم يريد أن يضمن لنفسه ولأولاده غدًا أفضل؛ سواء كان في التعليم، أو الصحة، أو السكن، أو العمل.
وسبب صعوبة هذه المُعادلة هو ضغط إعلانات الرفاهية التي تحاصرنا عبر الميديا (امتلك فيلا بـ ١٠ مليون فقط - احجز سيارة بـ ٣ مليون فقط - اشتري ايفون بـ ٦٠ ألف جنية فقط)، فيشعر الإنسان غير القادر بالنقص والدونية، ويحكم على نفسه بالفشل. فيضطر أن يُضحي بصحته، أو هدوئه النفسي، أو أحلامه الروحية، أو بوجوده الضروري مع عائلته، في مقابل أن يدخل هذا السباق مع غيره، ويصل إلى ما يطمح له؛ أو إن شئنا الدقة ما يفرضه المجتمع من طموح عليه. ولكن يفاجأ أنه ليس كل خريجي المدارس الأجنبية مُبدعين ومُخترعين، ولا كل المتعاقدين مع مستشفيات غالية أصحَّاء وطويلي الأعمار، ولا جميع ساكني الفيلات والشاليهات سُعداء ومتنعمين، فالكل “بيتقابل في الكارتة”.
المعادلة الكتابية
وهنا يجب أن نُلقي نظرة على معادلة أخرى قالها المسيح في موعظة الجبل، ربما تحل لنا المعادلة الصعبة السابقة، فنقرأ: «وَمَنْ مِنْكُمْ إِذَا اهْتَمَّ يَقْدِرُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى قَامَتِهِ ذِرَاعًا وَاحِدَةً؟» (متى٦: ٢٧).
فالمسيح يخبر الناس أن النتائج لا ترتبط دائمًا بكثرة الهَم والسعي، فنحن نسمع عمن يأكل كثيرًا فيزيد وزنه، أو من يأكل قليلاً فيقل وزنه (باستثناءات قليلة تخص معدل حرق الجسم للدهون)، ولكن هل سمعنا عمن يأكل كثيرًا يزيد طوله ولو ذراعًا واحدًا كما قال المسيح؟! مستحيل.
وعندما نُطبق مثل المسيح على حياتنا، سنفهم أنه لا يدعونا للتواكل والكسل، ولكن للهدوء والطمأنينة ونحن نقوم بمسؤولياتنا اليومية، لأن النتائج هي في يد الله وحده.
فجيد أن نهتم بأكلنا، ولكن الصحة كنتيجة يحفظها الله بقدرته، ورائع أن نجتهد في دراستنا، ولكن النجاح كنتيجة يعطيه الله لنا بجوده، ولازم أن نكون أمناء في أشغالنا، ولكن المنصب كنتيجة يمنحنا الله بإكرامه، وممتاز أن نوفر السُبل المُتاحة لأولادنا، ولكن نموهم وصلاحهم كنتيجة يحفظه الله بالعلاقة معه.
المعادلة المستقبلية
ولأن المسيح يعرف طبيعة البشر التي تبحث عن الأمان، ولا تكف عن العمل لضمان مستقبلها، فقد استطرد: «فَلاَ تَهْتَمُّوا لِلْغَدِ، لأَنَّ الْغَدَ يَهْتَمُّ بِمَا لِنَفْسِهِ. يَكْفِي الْيَوْمَ شَرُّهُ» (متى٦: ٣٤)، وكلمة شر لا تعني فقط السوء، ولكن ذات الكلمة اليونانية تترجم خبث (أفسس٤: ٣١).
فكل غد فيه الهموم والمشاكل التي تكفيه، وأصعب ما فيها أنها خبيثة وغير متوقعة؛ قد تأتي عبر أخبار مزعجة أو حوادث مميتة أو تعويمات مُدمرة.
ولكن هناك أمر يشجعنا، أن الله لا يتركنا لخبث هذا الغد منفردين، لكن يخبرنا أرميا النبي «إِنَّهُ مِنْ إِحْسَانَاتِ الرَّبِّ أَنَّنَا لَمْ نَفْنَ، لأَنَّ مَرَاحِمَهُ لاَ تَزُولُ هِيَ جَدِيدَةٌ فِي كُلِّ صَبَاحٍ. كَثِيرَةٌ أَمَانَتُكَ» (مراثي٣: ٢٢، ٢٤)، فصحيح الغد قد يحمل لنا صدمات ومفاجآت لأنه خبيث، لكن الله يجهز لنا في ذات الغد إحسانات (أمور رائعة يعطيها)، ومراحم (أمور سيئة يمنعها عنا)، وهذا ما يجعلنا نذهب لهذا الغد بكل اطمئنان.
لكن تبقى المشكلة فينا نحن، حين نستقدم احتياج مستقبلي على إحسانات ومراحم اليوم، فتجد الكثيرون يدخلون دوامة القروض والديون، ليس لتسديد احتياجات حالية لهم، ولكن لاحتياجات مستقبلية (شقة لابنه الرضيع - سيارة ثالثة للأسرة - جهاز عروسة لطفلته)، ويلومون الله لأنه لم يتدخل لتسديدها!!
هذا طبعا ليس ضد استثمار الفائض للغد، ولكن يومنا به ما يكفي من تحديات، وإلهنا أدرى منا باحتياجاتنا، وهو كافٍ لتسديدها كلها، ولا ننسى أن الله الذي شرَّع أكل المن يومًا بيوم، هو من سمح أيضًا بجمعه يومين ليوم السبت (خروج١٦: ٤، ٥). فارفع قدمك من بنزين الهَم والضغط والمقارنة مع الآخرين، وسر أيام غربتك هادئًا ومستريحًا على أذرع إلهك الأبدية، ومنتظرًا النتائج من يده السخية، وصدقني “كلنا بنتقابل في الكارتة”.