بدأت قراءتي منذ عدة أيام في سفر أيوب، متوقعًا أن انتهي من قراءته في خلال أيام. وإذا بي أتوقف أمام الآية الأولى في هذا السفر وبقيت وقتًا طويلاً مشغولاً بالفكرة التي وضعها الرب أمامي في ذلك اليوم.
يقول الكتاب في مطلع سفر أيوب: «كَانَ رَجُلٌ فِي أَرْضِ عَوْصَ اسْمُهُ أَيُّوبُ. وَكَانَ هذَا الرَّجُلُ كَامِلاً وَمُسْتَقِيمًا، يَتَّقِي اللهَ وَيَحِيدُ عَنِ الشَّرِّ» (أيوب١: ١). بينما أقرأ هذه الكلمات وجدت نفسي مأخوذًا، مبهورًا أمام عبارة “يحيد عن الشر”. والجدير بالذكر أن معنى كلمة “يحيد”: يتجنب - يبتعد.
ما أجمل العبارة، وما أروع معانيها، وما أعظم المؤمن الذي يعيش بها في حياته. لقد اكتشفت من كلمة الله أن الحيدان عن الشر ليس مجرد قرارًا يتخذه المؤمن، بل هو منهج يعيش به المستقيمون: «مَنْهَجُ الْمُسْتَقِيمِينَ الْحَيَدَانُ عَنِ الشَّرِّ. حَافِظٌ نَفْسَهُ حَافِظٌ طَرِيقَهُ» (أمثال١٦: ١٧).
هذه العبارة لها وجهان: الوجه الأول إيجابي يتمثل في مخافة الله، والوجه الثاني سلبي يتمثل في الابتعاد عن الشر وتجنُّبه. فأيوب كان يتقي الله (الجانب الإيجابي) ويحيد عن الشر (الشق السلبي).
أولاً: الجانب الإيجابي
الأتقياء هم من يتخذون قرارًا واضحًا بتبعية الرب، والالتصاق به وبكلمته. لا ينظرون للوراء، ولا يناقشون الأمر. مهما كانت التضحيات ومهما كلَّفهم هذا القرار. هم يعلمون جيدًا أنه لا سبيل أمامهم للنصرة والقوة إلا بتبعية الرب والالتصاق به. أو بلغة الكتاب هم يكرهون الشر ويلتصقون بالخير (رومية١٢: ٩). يحيدون عن الشر ويفعلون الخير (مزمور٣٧: ٢٧). أو بلغة بولس الرسول «إِذْ أَنَا أَنْسَى مَا هُوَ وَرَاءُ وَأَمْتَدُّ إِلَى مَا هُوَ قُدَّامُ» (فيلبي٣: ١٣). المؤمن الذي اتخذَّ هذا القرار يتخذ من مزمور١ شعارًا لحياته حيث يكون «فِي نَامُوسِ الرَّبِّ مَسَرَّتُهُ، وَفِي نَامُوسِهِ يَلْهَجُ نَهَارًا وَلَيْلاً» (مزمور١: ٢).
هذا هو الوجه الإيجابي والقرار الأول الذي يتخذه كل من يريد أن يعيش بالتقوى في هذا العالم الشرير، وكل من يطلب الرب ولا يريد غيره نصيبًا.
ثانيًا: الجانب السلبي
للقرار الأول الذي تكلمنا عنه في الجزء السابق وجهًا آخر لا بد أن يتخذه المؤمن في ذات اللحظة التي يتخذ فيها قراره الأول. فكما أنه يختار أن يتقي الرب ويسير خلفه ويتبعه فهو يتخذ قرارًا آخر بالحيدان عن الشر؛ بل إن الكتاب يؤكد أن القرار الثاني يكون مُغلَّفًا في القرار الأول «فِي مَخَافَةِ الرَّبِّ الْحَيَدَانُ عَنِ الشَّرِّ» (أمثال١٦: ٦). فمخافة الرب تحوي داخلها الحيدان عن الشر.
وكل مؤمن يتخذ هذا المبدأ منهجًا في حياته فإنه بهذا يكون قد اتخذ قرارًا حكيمًا ومنهجًا عظيمًا: «مَخَافَةُ الرَّبِّ هِيَ الْحِكْمَةُ، وَالْحَيَدَانُ عَنِ الشَّرِّ هُوَ الْفَهْمُ» (أيوب٢٨: ٢٨). هؤلاء هم الأذكياء: «اَلذَّكِيُّ يُبْصِرُ الشَّرَّ فَيَتَوَارَى، وَالْحَمْقَى يَعْبُرُونَ فَيُعَاقَبُونَ» (أمثال٢٢: ٣؛ ٢٧: ١٢). ليس ذكـيًا كل من يَعبُر في طريق الشر.
يصف الكتاب هؤلاء أيضًا بأنهم حُكماء: «اَلْحَكِيمُ يَخْشَى وَيَحِيدُ عَنِ الشَّرِّ، وَالْجَاهِلُ يَتَصَلَّفُ وَيَثِقُ» (أمثال١٤: ١٦). والحكيم هو الشخص الذي يستخدم المعرفة بطريقة صحيحة. فهو إنسان عرف مساوئ التعامل مع الشر وسقط في هذه الشبكة مرارًا وتكرارًا فقرر ألا يستمر في غبائه وأن يصبح أكثر حكمة وفطنة.
الرجل الحكيم الذكي التقي الذي قرَّر أن يحيد عن الشر ويتجنبه هو الرجل المكتوب عنه في المزمور الأول: «طُوبَى لِلرَّجُلِ الَّذِي لَمْ يَسْلُكْ فِي مَشُورَةِ الأَشْرَارِ، وَفِي طَرِيقِ الْخُطَاةِ لَمْ يَقِفْ، وَفِي مَجْلِسِ الْمُسْتَهْزِئِينَ لَمْ يَجْلِسْ» (مزمور١: ١). هو يبتعد، ويحيد، ويتجنب كل ما يفعله الأشرار. ولا يوجد في الأماكن أو الأحداث أو المجالس التي يكونون فيها، إنه يفعل ما أوصى به بولس تلميذه تيموثاوس قائلاً: «لْيَتَجَنَّبِ الإِثْمَ كُلُّ مَنْ يُسَمِّي اسْمَ الْمَسِيحِ» (٢تيموثاوس٢: ١٩).
صلاتي أن يعطينا الرب نعمة وفطنة واستنارة لكي نتقيه، ونحيد عن الشر؛ فنحصد أعظم وأروع النتائج حيث نكون «كَشَجَرَةٍ مَغْرُوسَةٍ عِنْدَ مَجَارِي الْمِيَاهِ، الَّتِي تُعْطِي ثَمَرَهَا فِي أَوَانِهِ، وَوَرَقُهَا لاَ يَذْبُلُ. وَكُلُّ مَا يَصْنَعُهُ يَنْجَحُ» (مزمور١: ٣).
ليكن هذا قرارًا يوميًا في حياتنا؛ فنحيد عن الشر، ونلتصق بالرب. نتجنَّب كل أنواع الشر، ولو كان مُغلَّفًا بأجمل وألمع الأغلفة. نتجنب المشاركة في الأحاديث والكلام الباطل. ونحيد عن الأفكار السلبية وكلمات الإدانة والإهانة للآخرين، نتجنب الصراعات ونحيد عن المباحثات السخيفة والجدالات العقيمة. ونتقي الله ونعيش له ونرضيه في كل أيام حياتنا.