يبدأ سفر نحميا بسؤالٍ منه عن أحوال الشعب الذين بقوا من السبي وعن حال المدينة أورشليم، وبكل أسف جاءه الجواب: «إِنَّ الْبَاقِينَ الَّذِينَ بَقُوا مِنَ السَّبْيِ هُنَاكَ فِي الْبِلاَدِ، هُمْ فِي شَرّ عَظِيمٍ وَعَارٍ. وَسُورُ أُورُشَلِيمَ مُنْهَدِمٌ، وَأَبْوَابُهَا مَحْرُوقَةٌ بِالنَّارِ» (١: ٣). فما كان منه إلا أن ارتمى باكيًا، نائحًا، صائمًا، مصليًا ومعترفًا بخطايا شعبه - ولمدة أربعة أشهر - طالبًا رحمةً من الله، عندما يقف قدام الملك. وإذ وقف أمام الملك، سأله الملك أسئلة ثلاثة:
(١) «فَقَالَ لِي الْمَلِكُ: لِمَاذَا وَجْهُكَ مُكْمَدٌّ وَأَنْتَ غَيْرُ مَرِيضٍ؟ مَا هذَا إِلاَّ كآبَةَ قَلْبٍ!» (٢:٢) وهو سؤال فاحص لكل وجه مكمَّد فينا! ويكمل الملك أن السبب لا بد وأن يكون كآبة قلب! فما هي حالة قلوبنا؟ وبالتالي ما شكل وتعبيرات وجوهنا؟ «اَلْقَلْبُ الْفَرْحَانُ يَجْعَلُ الْوَجْهَ طَلِقًا، وَبِحُزْنِ الْقَلْبِ تَنْسَحِقُ الرُّوحُ» (أمثال١٥: ١٣). لقد كان لدى نحميا سببًا حقيقيًا يستحق الحزن، فرد جوابًا للملك: «كَيْفَ لاَ يَكْمَدُّ وَجْهِي وَالْمَدِينَةُ بَيْتُ مَقَابِرِ آبَائِي خَرَابٌ، وَأَبْوَابُهَا قَدْ أَكَلَتْهَا النَّارُ؟».
وهو أول درس يودّ الروح القدس أن يُلفت انتباهنا إليه. هل يرى الآخرون فينا وجهًا طلقًا، أم وجهًا مكمدًا؟ وما هي طبيعة الأمور التي تفرح قلوبنا فرحًا عظيمًا؟ أو تغمنّا غمًا شديدًا؟!
(٢) «فَقَالَ لِي الْمَلِكُ: مَاذَا طَالِبٌ أَنْتَ؟» (٢: ٤) وهو سؤال تعتمد إجابته على إجابة السؤال الأول، فما يتسبب في كآبة قلوبنا، هو ما نعطيه الأولوية في طلباتنا. وهو ما أجاب به نحميا الملك: «أرسلني فأبني». ولكنه صلى أولاً بين السؤال والجواب، «فَصَلَّيْتُ إِلَى إِلهِ السَّمَاءِ». ترى ماذا عن إجابتنا لهذا السؤال، وما هي نوعية طلباتنا؟
وهنا يأتي سؤال الملك الأخير:
(٣) «فَقَالَ لِي الْمَلِكُ، وَالْمَلِكَةُ جَالِسَةٌ بِجَانِبِهِ: إِلَى مَتَى يَكُونُ سَفَرُكَ، وَمَتَى تَرْجعُ؟» لقد حاز نحميا ثقة الملك والملكة طوال سنوات عمله الفائتة؛ إذ استأمنوه على حياة الملك. فلقد كان نحميا ساقيًا للملك، يتذوق الشراب قبل الملك ليضمن خلوه من أي شيء يهدّد حياته.
ولا يسجل الوحي إجابة نحميا عن هذا السؤال بالتحديد! لكنه يقول: «فَعَيَّنْتُ لَهُ زَمَانًا». ثم يسجل رد فعل الملك على إجابته وهي: «فَحَسُنَ لَدَى الْمَلِكِ وَأَرْسَلَنِي!» (٢: ١-٦).
ونتعجب لمّا نعرف أن المدة التي قضاها نحميا في أورشليم كانت «اثْنَتَيْ عَشَرَةَ سَنَةً!» (٥: ١٤) فهل ردَّ نحميا جوابًا مباشرًا للملك بمدة غيابه الطويلة هذه؟ لا نعلم! وكذلك لا نعلم أن كان نحميا عاد في زياراتٍ قصيرة لقصر الملك أثناء هذه المدة! إنما نعلم أنه عندما تتفق حياتنا مع أفكار الله، وتتفق رغباتنا مع أشواق قلبه، فإن الله يذلّل كل الصعاب، ويعطينا نعمة في أعين الجميع. فلم يجب الملك طلبه فقط. بل، «أَعْطَانِي الْمَلِكُ حَسَبَ يَدِ إِلهِي الصَّالِحَةِ عَلَيَّ» (٢: ٨)، «قَلْبُ الْمَلِكِ فِي يَدِ الرَّبِّ كَجَدَاوِلِ مِيَاهٍ، حَيْثُمَا شَاءَ يُمِيلُهُ» (الأمثال٢١: ١).
والدرس الذي نتعلمه هنا، هو أن الله يستخدمنا من خلال مواقعنا وأعمالنا وعلاقاتنا. ومع ذلك يجب علينا ألا نتشبث بها ونعمّق جذورنا فيها، حتى عندما يدعونا الله لتركها، نكون جاهزين للانطلاق منها لنفعل ما يضعه الله على قلوبنا في المكان الذي يختاره الله. ولكن بالطبع ليس قبل الاهتمام والمشغولية القلبية التي تنشئ فينا بكاءً وصلاةً وصومًا، أيامًا وشهورًا. فهناك أعمال كثيرة في هذه الحياة يصلُح لها كثيرون، إنما ليس هكذا الحال مع عمل الله الذي لم يكن يصلح له سوى نحميا في ذلك الوقت!
لكن بمجرد أن شرع نحميا في البناء، امتلأ المشهد بالأعداء، والذين جاءت مقاومتهم في صورة معركة من عدة مواقع تدرّجت في حدّتها ومدتها وأساليبها. لكن بقي الغرض واحد، وهو منع البناء والترميم، ذلك للإبقاء على الخراب والدمار!
وبالرغم من التحديات العظيمة التي تطلَّبها البناء، والمقاومة الشديدة من الأعداء، تمتَّع نحميا بالحماية من العلاء، وبتعضيد إله السماء، وبيد إلهه الصالحة التي جادت بالعطاء.
ويكمن السبب الحقيقي لنصرة نحميا في الكلمات الافتتاحية له قبل بدء العمل وهي: «فَلَمَّا سَمِعْتُ هذَا الْكَلاَمَ جَلَسْتُ وَبَكَيْتُ وَنُحْتُ أَيَّامًا، وَصُمْتُ وَصَلَّيْتُ أَمَامَ إِلهِ السَّمَاءِ» (١: ٤).
لقد تعلّم نحميا أن يُمسك بالله بشدة في الصلاة. وهذه اليد التي أُغلقت لتُمسك بالله، فُتحَت لتلقي الاستجابة حسب يد إلهه الصالحة عليه. فالرجل الذي يقول: «جَلَسْتُ وَبَكَيْتُ وَنُحْتُ، وَصُمْتُ وَصَلَّيْتُ»، هو الذي يستطيع أن يقول: «وَنَظَرْتُ وَقُمْتُ وَقُلْتُ» (٤: ١٤).
ولنا في هذه المعركة، وفي ردود أفعال نحميا دروسًا رائعة، إذ أن هذا هو نفس النهج الذي ينتهجه عدو كل بر في حربنا الروحية. فطالما نحن جلوسًا وسط ركام الحطام، فنحن بمنأى عنه. لكن بمجرد قيامنا للبناء، يبدأ العدو بدق طبول الحرب.
الموقعة الأولى:
«وَلَمَّا سَمِعَ سَنْبَلَّطُ الْحُورُونِيُّ وَطُوبِيَّا الْعَبْدُ الْعَمُّونِيُّ سَاءَهُمَا مَسَاءَةً عَظِيمَةً، لأَنَّهُ جَاء رَجُلٌ يَطْلُبُ خَيْرًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ» (نحميا٢: ١٠)، وهنا يذكر رد فعل الأعداء على ما سمعوه «سَاءَهُمَا مَسَاءَةً عَظِيمَةً» ويذكر السبب بكل صراحة: لأَنَّهُ جَاءَ رَجُلٌ يَطْلُبُ خَيْرًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ». وهكذا تتضح نيات العدو الشريرة منذ اللحظة الأولى!
تذكَّر أن العدو لا يمكن أن يطلب لك خيرًا أبدًا يا صديقي! فالعدو يريد الأسوار منهدمة ليدخل ويخرج كيفما وأينما شاء، وإلا فهو يعلم أنه لن يكون له فيها نصيب ولا وطأة قدم، وخروجه من حياتك خسارة كبيرة بالنسبة له! «وَنَحْنُ نُعْلِمُ الْمَلِكَ أَنَّهُ إِذَا بُنِيَتْ هذِهِ الْمَدِينَةُ وَأُكْمِلَتْ أَسْوَارُهَا لاَ يَكُونُ لَكَ عِنْدَ ذلِكَ نَصِيبٌ فِي عَبْرِ النَّهْرِ... لِمَاذَا يَكْثُرُ الضَّرَرُ لِخَسَارَةِ الْمُلُوكِ؟» (عزرا٤: ١٦، ٢٢). تذكر أن العدو يريد أن يجد مكانًا في حياتك، لذا يأتينا التحذير: «وَلاَ تُعْطُوا إِبْلِيسَ مَكَانًا» (أفسس٤: ٢٧).
ترى ماذا عن ردّ فعل نحميا في هذه الموقعة؟
لا شيء! فطالما أبقى العدو نواياه الشريرة داخل قلبه، دعه يحترق غيظًا وكمدًا. فلم يبدأ نحميا بمشاكلة العدو، بل لم يُعِره التفاتًا، فلدي نحميا الكثير والكثير ليؤديه.
لكن مَن هما الأعداء، سنبلط الحوروني وطوبيا العبد العموني؟ للحديث بقية في الموقعة التالية.