الحديث عن الله وأمور الدين طالما كانت مادة مباحثات ساخنة؛ فالمعتقدات الدينية المختلفة دائمًا محل جدل شائك بين أصحابها منذ القديم. وتطول الحوارات بين شد وجذب، وأحيانًا بتعدٍّ وسب. حتى صارت ساحة حرب فكرية حامية الوطيس، يأتي كل مجاهد وقد ملأ جعبته بسهام الحجج كي يثبت صحة عقيدته بالبراهين الدامغة. وقت المناظرة يأتي كلا الطرفين لمحل المناقشة بعد أن درس وبحث جيدًا وأعد ذهنه وسن لسانه ليجيب عن كل الأسئلة التي قد توجه إليه ليفحم الآخر بقوة رده، ظانًا أن الأمر لا يحتاج سوى معرفة غزيرة وجرأة على المواجهة. عندما يبدو أحدهم ضعيفًا، قليل الحجة أو يبدو مترددًا، يرجع خصمه آنذاك مختالًا بنشوة انتصاره فتزداد قناعته بصحة أفكاره ويكون أكثر استعدادًا لخوض جولة جديدة يظهر فيها قدراته وليضيف إلى لائحة إنجازاته.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه. ماذا لو سألت أحد هؤلاء العلماء في شؤون الدين عن استعدادهم لمواجهة الموت؟ هل لديهم يقين بنِعم المصير؟ ما هو رد فعلهم عندما يواجهون المقاومة والرفض، ضريبة لإيمانهم؟ هل يتذوقون طعم السلام أو يعتبرون الاضطهاد شرفًا ويحتملون الظلم بصبر وبشكر وسلام؟ يقول الكتاب: «قَدِّسُوا الرَّبَّ الإِلهَ فِي قُلُوبِكُمْ، مُسْتَعِدِّينَ دَائِمًا لِمُجَاوَبَةِ كُلِّ مَنْ يَسْأَلُكُمْ عَنْ سَبَبِ الرَّجَاءِ الَّذِي فِيكُمْ» (١بطرس٣: ١٥).
هنا الرسول بطرس يكلمنا عن الاستعداد للمجاوبة، لكن عن أي شيء نجيب؟ الموضوع هنا ليس بشأن عقيدة ما، بل عن سبب الرجاء. لكي نفهم ما يقصد الروح القدس أن يوصله لنا في هذه الأقوال يجب أن نتذكر هذه الاعتبارات:
أولًا: الآلام من أجل البر هو سياق الحديث
«َمَنْ يُؤْذِيكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُتَمَثِّلِينَ بِالْخَيْرِ، وَلكِنْ وَإِنْ تَأَلَّمْتُمْ مِنْ أَجْلِ الْبِرِّ، فَطُوبَاكُمْ. وَأَمَّا خَوْفَهُمْ فَلاَ تَخَافُوهُ وَلاَ تَضْطَرِبُوا، بَلْ قَدِّسُوا الرَّبَّ الإِلهَ فِي قُلُوبِكُمْ، مُسْتَعِدِّينَ ... بِوَدَاعَةٍ وَخَوْفٍ وَلَكُمْ ضَمِيرٌ صَالِحٌ، لِكَيْ يَكُونَ الَّذِينَ يَشْتِمُونَ سِيرَتَكُمُ الصَّالِحَةَ فِي الْمَسِيحِ، يُخْزَوْنَ فِي مَا يَفْتَرُونَ عَلَيْكُمْ كَفَاعِلِي شَرّ» (١بطرس٣: ١٣-١٦)
يتكلم النص عن فريقين: فاعلي الشر والأبرار: الفريق الأول يؤذي ويرهب ويشتم ويظلم، والآخر يتألم من أجل البر. الحديث هنا عن الآلام التي يواجهها المؤمنين بسبب تمسكهم بالحق وسلوكهم بالاستقامة، متعارضًا مع رغبة فاعلي الشر؛ لأن الذين يتمسكون بعمل الصلاح يجعلون الشر موبَّخًا ومفضوحًا في نور أمانتهم وبرهم العملي.
ثانيًا: طريقة الجواب هي بيت القصيد
نرى حزمة ثلاثية من ردود أفعال الذين يتألمون من أجل البر: بالارتباط بأنفسهم، ثم بالارتباط بالرب، وأخيرًا بالارتباط بالمقاومين والمضطهِدين:
١. السلام الداخلي في القلب (لا للخوف ولا للاضطراب). كيف يقول الرب لا تخافوا ثم يطلب أن نجيب بوداعة وخوف. لأنه يوجد فرق بين خوف وخوف. المقصود بكلمة «خَوْفَهُمْ فَلاَ تَخَافُوهُ» أن الخوف من فاعلي الشر يجب ألا يسودنا. أو ربما خوف المضطهدين أنفسهم إذ ينتابهم ارتياع بسبب الضمير المشتكي عليهم. أما سلام المؤمن فمؤسَّس على فعل الصلاح بضمير صالح بثقة في الإله الصالح. أما خوف الرب فهو مهابة الرب وتقديره كالرب العادل الذي له النقمة.
٢. تقديس الرب في القلب (عمل حساب وتقدير أولًا للرب)
كثير من يحفظ الآية من الجزء الأوسط وهو «مُسْتَعِدِّينَ ...»، بينما لا يمكن أن يكون لدينا هذا الإعداد أو الاستعداد بدون أن يكون الدافع الحقيقي هو إكرام الرب؛ فيكون البر ثمر الإيمان العديم الرياء، والتكريس الصادق للرب، والتقدير الكامل للرب القدوس الذي يُسرّ بالحق في الباطن. لذلك يختلف تأثير الأفعال والأقوال من مؤمن لآخر وفقًا لمدى إخلاصه للرب وتقديره لاعتبارات مجده.
٣. شهادة عن سبب الرجاء (الجواب بكل وداعة وخوف)
تعلمنا كلمة الله أن يكون الجواب سبيكة من ثلاثة عناصر: إن كان المعدن الرئيسي للجواب هو الخبر في حد ذاته عن الرجاء الذي نبرر به الفرح والسلام والصبر في الآلام لكن يجب أن يكون الكلام ممتزجًا بالوداعة والخوف. بوداعة أي دون أن يكون في القلب أدنى رغبة في طلب نقمة الرب أو حتى الحديث عن القصاص العادل الذي يجريه الرب على الأشرار بلغة الشماتة والتشفي. كذلك عدم الرد بلسان متعالٍ، أو إظهار أننا نفعل البر بفضل قوتنا أو تقوانا. أما عن الخوف هنا فهو مهابة الرب التي تجعل المؤمن يشهد بشجاعة مقدسة تخلو من الهواجس والشكوك؛ لأن الذي يخاف الرب لا يخشى من إنسان. ويا له من مزيج رائع متوازن من الوداعة والشجاعة المقدسة الصفتان اللتان ظهرتا في المسيح أيام تجسده.
ثالثًا: الرجاء يطل برأسه وسط الألم الشديد
ردود أفعال الإنسان في أوقات الألم وخاصة الظلم يلفت انتباه الجميع حتى الظالمين أنفسهم، ويثير السؤال المحير: منِ أين لهم بهذا السلام العجيب؟ كيف يغفرون للمسيئين؟ كيف يفرحون في الضيق؟
من شهادة كثيرين رجعوا إلى الرب عبر الأزمان، من عبودية الأوثان أو ظلمة الأديان، كان المؤثر هو ردود أفعال المسيحيين الحقيقيين وسط آلامهم. آلام الظلم والتعيير من الأشرار لإصرارهم على عمل ما هو مرضي للرب. آلام الحرمان من المزايا والترقيات بسبب مبادئهم وأخلاقياتهم التي تنبع من إيمانهم.
هؤلاء المؤمنين، الذين يتألمون من جيرانهم وزملاءهم أو رؤسائهم في العمل، عَلِموا أن إكرام الرب أعظم من كل الإغراءات وصور المكاسب التي يساومنا العالم بها. امتلأت قلوبهم بالقناعة الكاملة أن كل شيء في الحياة سيزول ولا يبقى إلا ما كان للرب. قياس كل الأشياء في ضوء الأبدية حتى الألم والظلم يظهر على المؤمن في سلامه الثابت وفرحه في الضيق، وهذا ما ينتجه الرجاء.
رابعًا: سبب الرجاء له جاذبية وتأثير فريد
"مرة سمعت اختبارًا من مرسل أمريكي اسمه "براين هوجان". أرسله الرب هو وزوجته إلى منغوليا في بداية التسعينات من القرن الماضي. كانت الخدمة شاقة والمقاومة عنيفة والثمر قليل. شاء الرب الحكيم أن يموت طفلهما الأول هناك فتألم كثيرًا بسبب هذه التجربة لكن الرب شجعه أن يقوم ويتكلم في الجنازة عن الرجاء المسيحي بكل سلام، فترك هذا الأمر أثرًا مدهشًا بين هذا الشعب الذي لا يعرف الله والذي يهاب الموت وعواقبه. مرت السنون وعاد المرسل بعد بضعة سنوات إلى بلاده ثم عاد مرة أخرى لكي يشدد المؤمنين القلائل الذين في منغوليا لكنه فوجئ بعشرات الألوف الذين آمنوا بالمسيح بعد أن عرفوا سبب الرجاء الذي شدد هذا المرسل في موت ابنه الوحيد وهو يخدم الرب بينهم."
إن الرجاء ليس فقط يمنح المؤمن قوة وثبات وفرح في الضيقات، بل يثير تساؤلات الناس ويقودهم لمعرفة مخلصنا الحبيب. كم من المؤمنين في المستشفيات لمع الرجاء في وقت آلامهم وكثرة همومهم! فدفع المحيطين بهم أن يسألوهم عن سبب هذا الرجاء. فكانت آلام أولئك القديسين سببًا في جذب البعيدين سواء من المعاندين أو حتى المتدينين. عزيزي، يا من تتألم ولا تدري لماذا سمح الرب بتلك التجربة التي تجتاز فيها. افرح في الرجاء واشهد عن سبب رجائك.