قالوا: “الظروف تصنع ما نحن عليه“! لست متفقًا تمامًا معهم؛ لأن الظروف تكشف ما نحن عليه، أكثر من كونها تصنعنا. واليوم في رحلتنا في عقل رجل جديد من رجال الإيمان، ونحن نفتش في جوانب حياته، ستكتشف معي منطق ما أقوله عن علاقتنا بالظروف.
سنبحث في رحلتنا اليوم عن قناعات قادت هذا البطل، وساعدته في اتخاذ قرارات الحياة. وليس لدينا هدف إلا كشف عمل الإيمان في تشكيل شخصيته وليس الظروف، والتركيز على الإيمان العامل والناشط في جوانب حياته.
وبطلنا اليوم هو دانيآل الذي يعني اسمه “الله قاضيَّ”، ذلك الفتى الذي مع أنه نشأ في عائلة ملكية، لكن وقع نصيب أيامه في فترة هي الأصعب، حيث السبي البابلي لمملكة يهوذا، والذي كان على ثلاث مراحل؛ بدأ بالعائلة الملكية. وهذا الظرف كان كفيلاً أن يضع مطبًّا أمامه ليتعثر في الله؛ فكيف لشاب مرفّه من نسل ملكي أن يُسبى؟ أين الله ولماذا يسمح بذلك؟ ولكن مفتاح عدم تعثُّر دانيآل يكمن في معنى اسمه، فالله الذي يقضي هو عادل، وقد شائت مشيئته أن يحدث السبي لأن حالة مملكة يهوذا كانت تستلزم القضاء، لم يعترض الفتى ذو السابعة عشر من عمره تقريبًا، بل كان يسلم أمره لله القاضي.
عزيزي ربما تكون تعرضت لظرف صعب وضع مطبًّا في طريق علاقتك بالله، أدعوك أن تتمثل بدانيآل الذي سلَّم قضيته لله عالمًا أنه معه ولن يتركه، فالإيمان يستلزم تسليم الظروف الصعبة للرب وانتظاره، وهذا يساعدنا على تلقي معونات وقت الألم؛ فبين معاناتك ومعونات الله “تسليم”. ثق أنه يعمل لخيرك حتى وإن كانت الظروف ضيقة: «الَّذِينَ يَتَأَلَّمُونَ بِحَسَبِ مَشِيئَةِ اللهِ فَلْيَسْتَوْدِعُوا أَنْفُسَهُمْ كَمَا لِخَالِقٍ أَمِينٍ فِي عَمَلِ الْخَيْر»ِ (١بطرس١٩:٤)
وبمتابعة الأصحاحات الستة الأولى من نبوة دانيآل، نجد ظروف خارجية كثيرة كانت كفيلة أن تؤثر في شخصيته، لكن دانيآل ثبتَّ ثقته في الله، وكانت قراراته نابعة من إيمانه بالله وإليك بعض منها: -
١-موقفة من حرب الكلدنة:
هو والثلاث فتية اختيروا ليدخلوا الأكاديمية الكلدانية، وليدرسوا فيها ثلاث سنوات، فنبوخذ نصر الملك البابلي قرر اختيار: «وَمِنَ الشُّرَفَاءِ، فِتْيَانًا لاَ عَيْبَ فِيهِمْ، حِسَانَ الْمَنْظَرِ، حَاذِقِينَ فِي كُلِّ حِكْمَةٍ وَعَارِفِينَ مَعْرِفَةً وَذَوِي فَهْمٍ بِالْعِلْمِ، وَالَّذِينَ فِيهِمْ قُوَّةٌ عَلَى الْوُقُوفِ فِي قَصْرِ الْمَلِكِ، فَيُعَلِّمُوهُمْ كِتَابَةَ الْكَلْدَانِيِّينَ وَلِسَانَهُمْ.» (دانيآل١: ٣، ٤). وكان القصد من هذه الأكاديمية “كلدنتهم” أي محو هويتهم الأصلية، بتغيير منهج حياتهم، طعامهم ولغتهم - لغة العهد القديم آن ذاك - إلى الدرجة التي ينسون معها أسماءهم القديمة، ويعطونهم أسماء كلدانية، فدانيآل أعطوه اسم بلطشاصر أو المفضل من بيل الإله الوثني.
لكن الفتيان فطنوا لحيلة محو الهوية، رفضوا الطعام الذي كان يُذبح للأوثان، معلنين هويتهم المنتمية لله برفض ما ذبح لأوثان، وتمسكوا بالقطاني أي البقول. تخيل معي عزيزي لو كنت مكانهم! مسبيون في أرض غريبة، لا يراهم أحد؛ كانوا بسهولة يقبلون العرض المقدَّم من الملك، بل وينخرطوا في التشبة بمبادئ المملكة الكلدانية. لكنهم أبوا هذا التشكيل الذي يمحو هويتهم وعاداتهم المكتسبة من العشرة مع الله.
صديقي هل تعلم أن العالم ما زال يشن الحرب علينا ليغير هويتنا، أضع أمامك دانيآل ورفقاءه كنموذج لرفض الروح العالمية، فالإيمان يعلمنا إننا في العالم كمكان وليس العالم فينا كهوية، بل يحثنا على هزيمة روح العالم «لأَنَّ كُلَّ مَنْ وُلِدَ مِنَ اللهِ يَغْلِبُ الْعَالَمَ وَهَذِهِ هِيَ الْغَلَبَةُ الَّتِي تَغْلِبُ الْعَالَمَ إِيمَانُنَا» (١يوحنا٤:٥)، وبطريقة عملية نتغير عن تشكيل العالم المادي لشخصياتنا ونرفض محو هويتنا في المسيح.
٢-موقفه أمام الملوك:
حظى دانيآل بفترة عمرية طويلة نسبية ربما تخطت التسعين عامًا، فعاصر ملوك من إمبراطوريات مختلفة، فذُكر أنه عاصر ٤ ملوك: نبوخذ نصر، بَيْلْشَاصَّرُ، داريوس، كورش، ولكن لم تتغير شخصيته رغم تغير الملوك، فمع جميعهم ثبت على شجاعته. فعندما وقف أمام نبوخذ نصر لم يجامله على حساب الرب بل أخبره بما لا يجرؤ أحد على قوله لمدير في العمل وليس لرئيس أكبر دولة في العالم «... هَذَا هُوَ قَضَاءُ الْعَلِيِّ الَّذِي يَأْتِي عَلَى سَيِّدِي الْمَلِكِ: يَطْرُدُونَكَ مِنْ بَيْنِ النَّاسِ وَتَكُونُ سُكْنَاكَ مَعَ حَيَوَانِ الْبَرِّ وَيُطْعِمُونَكَ الْعُشْبَ كَالثِّيرَانِ ... حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّ الْعَلِيَّ مُتَسَلِّطٌ فِي مَمْلَكَةِ النَّاسِ وَيُعْطِيهَا مَنْ يَشَاءُ» (دانيآل٢٤:٤-٢٥)
كيف لشخص مسبي أن يمتلك الجرأة هذه؟ الإجابة هي الإيمان الواثق في الله، لم يخشَ على نفسه، بل وضع الله أولًا.
وتمر الأيام ويقف أمام آخر وهو بَيْلْشَاصَّرُ، ويبلغه أيضًا بقضاء الله، «أَحْصَى اللَّهُ مَلَكُوتَكَ وَأَنْهَاهُ... وُزِنْتَ بِالْمَوَازِينِ فَوُجِدْتَ نَاقِصاً... قُسِمَتْ مَمْلَكَتُكَ وَأُعْطِيَتْ لِمَادِي وَفَارِسَ» (دانيآل٢٦:٥-٢٨)، فلم تغير الظروف دانيآل، بل أظهرت حقيقة ثباته في الله.
٣-موقفه أمام الإغراءات:
في بداية حياته رفض الطعام المغري وفضل مبادئ إلهه، وتمر الأيام وتظهر إغراءات أن يكون ثالث في مملكة بيلشاصر وقال: «لِتَكُنْ عَطَايَاكَ لِنَفْسِكَ وَهَبْ هِبَاتِكَ لِغَيْرِي» (دانيآل١٧:٥)، يا له من شبع داخلي صمد أمام المغريات، تُرى من أين حصل على ذلك؟ الجواب هو العشرة مع الله، لقد تشبَّه بأبيه إبراهيم يوم رفع يده ألا يأخذ من ملك سدوم خيطًا؛ إذ قد سبق وتقابل مع ملكي صادق المُشبَّه بابن الله (تكوين٢٣:١٤)، أشجعك على التعمق في العشرة مع الله فهي مصدر الشبع.
٤-موقفة وسط المناصب العالية:
وصل دانيآل باجتهاده إلى قمة المناصب الحكومية، ففي أيام داريوس كان واحد من ثلاث وزراء مسؤولين عن الحسابات، ومع هذا لم تغيره السلطة، بل أظهرت السلطة حقيقة أمانته، فالإيمان بالله لابد أن يُترجم عمليًا بالأمانة في كل شيء.
عزيزي لقد نجح الإيمان الحقيقي في حياة دانيآل أن يعمقه في الله، فصارت حياته ناجحة في جميع المجالات.
دانيآل لم تغيره الظروف، لكنها أظهرت شخصًا واثقًا أمام الملوك، عفيف النفس أمام المغريات وأمينًا في عمله، والمفتاح هو عمل الإيمان في حياته...
وللحديث بقية.