«أَنْقِذِ الْمُنْقَادِينَ إِلَى الْمَوْتِ، وَالْمَمْدُودِينَ لِلْقَتْلِ. لاَ تَمْتَنِعْ.
إِنْ قُلْتَ: هُوَذَا لَمْ نَعْرِفْ هذَا، أَفَلاَ يَفْهَمُ وَازِنُ الْقُلُوبِ؟
وَحَافِظُ نَفْسِكَ أَلاَ يَعْلَمُ؟ فَيَرُدُّ عَلَى الإِنْسَانِ مِثْلَ عَمَلِهِ» (أمثال٢٤: ١١، ١٢)
إن هذين العددين، يُشيران إلى أسلوب من أساليب المحاكمات في أزمنة العهد القديم، فحينما كان يؤخذ أحد المجرمين للمحاكمة، كان يتقدمه مُنادٍ يذيع على مسمع من الناس الجريمة التي أُخذ بها، ويطلب مِمَن قد تكون لديه معلومات لصالح المتهم أن يتقدم. فإذا وُجِدَ، يعودون بالمتهم إلى دار القضاء لتُفحَص القضية من جديد.
فإذا كان لواحد من الناس معلومات تؤدي إلى تبرئة المتهم، ولكنه يحتجزها في نفسه، مما يؤول إلى إعدام المتهم، فمعنى هذا التصرف أن ذلك الشاهد يقف مع قَايِين على قدم المساواة، ويقول: «لاَ أَعْلَمُ! أَحَارِسٌ أَنَا لأَخِي؟» (تكوين٤: ٩). لكن ديان الجميع، الذي يزن القلوب، سيكون شاهدًا عليه، ويرد له حسب عمله.
وهذا ما حدث من الرسول بولس مع ”حَافِظ السِّجْنِ“ الذي كان على وشك أن يقتل نفسه، لعلمه بقسوة القانون الروماني بالنسبة للتهاون في حراسة السجناء، ولكن وصلت صرخة الرسول بولس إلى أذنيه «لاَ تَفْعَلْ بِنَفْسِكَ شَيْئًا رَدِيًّا! لأَنَّ جَمِيعَنَا ههُنَا!» (أعمال١٦: ٢٨). إن صرخة بولس المُفاجئة كانت بمثابة صوت من الله لحَافِظ السِّجن، الذي سرعان ما سأل السؤال العظيم، الذي ما يزال ملايين الخطاة الذين يبكِّتهم روح الله، يسألونه من ذلك الحين «مَاذَا يَنْبَغِي أَنْ أَفْعَلَ لِكَيْ أَخْلُصَ؟». وقد تلقى الإجابة الخالدة، التي ما زالت تُستخدم لتنوير وخلاص نفوس لا يحصرها عدد «آمِنْ بِالرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ فَتَخْلُصَ أَنْتَ وَأَهْلُ بَيْتِكَ» (أعمال١٦: ٣٠، ٣١). ولم يُنقذ الرسول بولس حياة السجان من الانتحار فحسب، بل قاده أيضًا إلى الحياة الأبدية التي في المسيح.
وما عسانا نقول عن المؤمنين المسيحيين الذين يشاهدون بأعينهم كل يوم مئاتٍ وألوفًا من الناس رفقائهم، يعبرون إلى الويل الأبدي، ومع ذلك فقلما يتحركون لإعلان رسالة نعمة الله؛ رسالة التبرير المجاني للخطاة المجرمين بواسطة الرب يسوع المسيح؟!
وأنه لفكر أليم ومزعج غاية الإزعاج أنه برغم مرور القرون العديدة منذ أمر الرب يسوع تلاميذه: «اذْهَبُوا إِلَى الْعَالَمِ أَجْمَعَ وَاكْرِزُوا بِالإِنْـجِيلِ لِلْخَلِيقَةِ كُلِّهَا» (مرقس١٦: ١٥)، فإننا نواجه اليوم هذه الحقيقة المريرة، وهي أن هناك الملايين من الجنس البشري في طريقهم إلى الموت الأبدي، بينما أولئك الذين باركتهم النعمة وأسعدتهم، قلما يعنون بأن يحملوا كلمة المصالحة التي تُنقذ هؤلاء من بُحَيْرَةِ النَّارِ الْمُتَّقِدَةِ بِالْكِبْرِيتِ. ولا ننسى أننا مسؤولون أمام الله عن مَن حولنا، وهو – تبارك اسمه - لن يتسامح مع الأنانية وعدم المبالاة من جانب شعبه، تلك الصفات التي أدت بهم أن يهملوا - إلى درجة كبيرة - حمل إنجيل الله، ليس إلى ”الْعَالَمِ أَجْمَعَ“، بل حتى لمَن هم حولنا.
إن صراخ أولئك ”الْمُنْقَادِينَ إِلَى الْمَوْتِ، وَالْمَمْدُودِينَ لِلْقَتْلِ“، يصعد إلى أُذْنَيْ الرب، نهارًا وليلاً، بينما هم ينتظرون الخلاص. فليكن واجبنا إذًا، لا أن نقول «هُوَذَا لَمْ نَعْرِفْ هذَا»، بل أن ندرك امتيازنا، وبكل وسيلة نذيع كلمة الخلاص. ولا ننسى كلام الرب لحزقيال «إِنْ رَأَى الرَّقِيبُ السَّيْفَ مُقْبِلاً وَلَمْ يَنْفُخْ فِي الْبُوقِ وَلَمْ يَتَحَذَّرِ الشَّعْبُ، فَجَاءَ السَّيْفُ وَأَخَذَ نَفْسًا مِنْهُمْ، فَهُوَ قَدْ أُخِذَ بِذَنْبِهِ، أَمَّا دَمُهُ فَمِنْ يَدِ الرَّقِيبِ أَطْلُبُهُ» (حزقيال٣٣: ٦).
وفكرة الرقيب مأخوذة أساسًا من أن سكان المدينة كانوا يقيمون لهم شخصًا يسمونه بالرقيب الذي يقف على الْمَرْقَبِ الذي على سور المدينة، لكي يراقب حالات الخطر التي تتهدد المدينة. ففي حالة مجيء جيش لمهاجمة المدينة، ينفخ في البوق لكي ينبه سكان المدينة على أن هناك خطر قادم يتهددهم، فيستعدون لمقاومة هذا الخطر. فإذا نفخ الرقيب في البوق، والشعب لم يتحذّر، ففي هذه الحالة يكون الرقيب قد قام بواجبه، ويصبح الشعب هو المسؤول عما يحدث له، ولكن إن فشل الرقيب، ولم ينفخ في البوق، ولم يتحذّر الشعب، وحدث خراب للمدينة، فيكون الرقيب هو المسؤول، ودم شعب المدينة يطلب منه.
وهنا درس هام وخطير في نفس الوقت، يجب أن نضعه نصب أعيننا نحن الذين نعرف الخطر الذي ينتظر الخطاة المساكين، فيجب علينا أن نُحذرهم لكي يهربوا من الغضب الآتي، بالاحتماء في دم الرب يسوع المسيح. وكم نشعر بالخجل لأننا كثيرًا ما نهمل في أن ننفخ في البوق ونحذّر هؤلاء الخطاة الهالكين. لنتذكر تحريض الرسول بولس لتيموثاوس: «اكْرِزْ بِالْكَلِمَةِ. اعْكُفْ عَلَى ذلِكَ فِي وَقْتٍ مُنَاسِبٍ وَغَيْرِ مُنَاسِبٍ. وَبِّخِ، انْتَهِرْ، عِظْ بِكُلِّ أَنَاةٍ وَتَعْلِيمٍ» (٢تيموثاوس٤: ٢).
فعلى المؤمن أن يتكلَّم ويكرز ”بكلمة الله“؛ عليه أن يتكلَّم بما تكلَّم الله به. إن مسؤوليته بإزاء الكلمة لا أن يُصغي إليها فقط، ولا أن يؤمن بها ويخضع لها فقط، ولا أن يشترك في احتمال المشقات في سبيلها وأن يثبت فيها، ولا أن يحفظها من كل زيف فحسب، ولكن مسؤوليته أيضًا أن يكرز بها للآخرين. إن عليه أن يرفع صوته دون خجل أو خوف أو وجل، عليه أن يرفع صوته في شجاعة ليجعل هذا الخلاص مُعلَّنًا للجميع.
ونلاحظ الفعل الذي يستخدمه الرسول بولس في تحريضه: «اعْكُفْ» والذي يعني حرفيًا في اليونانية: ”قف مستعدًا“، ”كن جاهزًا“ أو ”تحت الطلب“. إن الكلمة تحمل معاني اليقظة، والتشوق والتطلع، ولكن أيضًا الإحساس بالإصرار والمثابرة والضرورة الملحة التي تتطلب السرعة. وكأن الرسول يقول لابنه تيموثاوس: ”لا تفقد إحساسك بالضرورة العاجلة أبدًا. ودع الناس يلمسون ويُبصرون غيرتك وحماستك“.
«اكْرِزْ بِالْكَلِمَةِ. اعْكُفْ عَلَى ذَلِكَ»، ويُضيف الرسول: «فِي وَقْتٍ مُنَاسِبٍ وَغَيْرِ مُنَاسِبٍ»، بمعنى: ”التزم بالكرازة، وانشغل بالخدمة، في كل الأحوال؛ في الأوقات الملائمة وغير الملائمة“. وطبعًا الحديث هنا لا ينصب على المستمعين بقدر ما هو على المتكلِّم، سواء رُحِّبَ به أم لم يُرَّحّب“.
عزيزي: إذا كان الإيمان بالمسيح جديرًا بالحصول عليه، فهو أيضًا جديرًا بأن يُهدى الناس إليه. النفوس من حولنا تهلك بدون المسيح، فعلى كل واحد منا مسؤولية أن نذهب ونخبرهم عن محبته وخلاصه الكامل. فهلا تذهب وتُخبر الآخرين «كَمْ صَنَعَ الرَّبُّ بِكَ وَرَحِمَكَ» (مرقس٥: ١٩).