رحلة في عقل جدعون

يقولون: اسم على مسمى، وهو قول صحيح حينما يكون معنى الاسم يتوافق مع طبيعة صاحبه، فمثلًا اسمه كريم وخلقه كرم الضيافة. واليوم في رحلة بحثنا في إيمان الأبطال، المسجَّلة أساميهم في عبرانيين١١، سنبحث في حياة رجل معنى اسمه “القاطع” وصفته “جبار بأس” بشهادة الرب نفسه.

هو القاضي الخامس من قضاة إسرائيل الأربعة عشر، من سبط منسى، واسمه “جدعون” و“يربعل”. قضى لإسرائيل ٤٠ سنة وخلصهم من مذلة ٧ سنوات على يد المديانيين، العمالقة وبني المشرق.

تميزت حياة جدعون بالنشاط وعدم الاستسلام، بل وقدَّم في إيمانه فضيلة أي “الشجاعة الأدبية” (٢بطرس٥:١-٨)، والتي ظهرت في مواقف عديدة جميعها مسجَّلة في سفر القضاة ١:٦ - ٣٢:٨. ولعلنا اليوم نلتقط منها القليل.

١-رجل المعصرة

وهنا نجد الإيمان العامل؛ ففي قلب المجاعة، حيث كان العدو يتلف غَلَّة الأرض، وشعب إسرائيل لم يجد قوت يومه؛ لم يقف بطلنا مع صفوف المتفرجين ولا اللائمين، بل قرر العمل رغم غياب الإمكانيات؛ فمن المعروف أن الحنطة (القمح) تُذرَّى (يفصل القمح عن التبن) في البيدر (المكان المجهز لذلك)، لكن نرى جدعون في المعصرة (مخصص لمرحلة مختلفة) يخبط الحنطة! ما أروع هذا المشهد الذي يُظهِر قوة الإيمان في تحدي الظروف، لقد شعر بروحه بخطورة المجاعة على شعب الرب؛ فقرر أن يخبط حنطة. لم يشعر بصغر نفس ويقول: ما هذا لمثل هؤلاء! بل نزل وجمع لإخوته حنطة لسداد احتياجاتهم.

صديقي هل تقتدي بجدعون، وتجمع ولو القليل من كلمة الحياة لتُشبَع نفسك وإخوتك؟ أشجِّعك؛ فمكتوب «فِي حَرْثِ الْفُقَرَاءِ طَعَامٌ كَثِيرٌ، وَيُوجَدُ هَالِكٌ مِنْ عَدَمِ الْحَقِّ» (أمثال٢٣:١٣). ابدأ من اليوم ولا تقُل أنا صغير، فالرب يلاحظ دوافع قلبك ونشاط إيمانك في إشباع من حولك، وهذا ما حدث مع جدعون؛ فالسماء كانت تشاهد مشهد المعصرة “لايف”، ووصفه الرب أنه جبار بأس.

٢-رجل الشركة

في حياة جدعون ثلاثة مذابح، إثنان بناهما وواحد هدمه. ربما من تكوين ٨ و١٢، حيث نوح وإبراهيم، تعلَّم أن الشركة مع الله يلزمها تقديم ذبائح والتي يلزمها مذبح، وهذا ما عمله فبعد لقاء ملاك الرب في عفرة التي ليوآش، بنى مذبح وأسماه “يَهْوَهَ شَلُومَ” أي “الرب سلام”، وأما المذبح الثاني فبناه على الحصن كما أمره الرب، ولكن بعد هدم المذبح الذي في بيت أبيه، وكان مذبحًا للبعل - وهي عبادة وثنية؛ فكلمة “بعل” تعني “رب”، وقد أطاع جدعون قول الرب.

عزيزي إن الإيمان الحقيقي لا بد أن يصحبه طاعة لله، حتى ولو تعارضت مع أقرب الناس (أعمال٢٩:٥). في الصباح اكتشفوا غياب السارية والتي أوقد بها جدعون الذبيحة وأيضًا هدم مذبح البعل، فقرروا قتل جدعون، ولكن أبيه وضعهم أمام منطق، وهو أنه لو البعل حي فليقاتل لنفسه (قضاة٣١:٦)، وهذا دليل على أن الوثن لا روح فيه، فأطلقوا عليه اسم يربعل أي ليقاتله البعل لأنه هدم مذبحه، ياله من اسم مُشرِف في معناه أنه ضد الأوثان.

عزيزي لقد أظهر إيمان جدعون شركة حقيقة مع الله، بتقديم وهدم، ولنا نحن نفس الدعوة المزدوجة أن نقدم أجسادنا ذبيحة حية (رومية١:١٢) وأن نهدم كل ظنون وعلو ضد معرفة الله (٢كورنثوس٥:١٠)، فلا نفع من شركة مع الله لا يعقبها بناء ما يمجده وهدم ما عداه.

٣-رجل الحرب

لا تُشبَّه حياة الإيمان بملعب، بل بساحة حرب. لعلنا نفطن كجدعون أن لنا أعداء ثلاثة، العالم مُمثَل في المديانيين، الجسد في العمالقة، والشيطان في بني المشرق، إنه الثالوث الأنجس الذي يواجه نسل إبراهيم أي المؤمنين فلنتحذر.

كان جدعون قائدًا عسكريًا استطاع بالعمل الجماعي ودعوة الآخرين (قضاة٣٤:٦-٣٥) أن يجمع ٣٢ ألف للخروج للحرب، وهذا درس هام، العمل الروحي لا يُبنى على الفردية، بل على الفريق. والدرس الثاني تعلمه من الرب شخصيًا وهو أنه وإن كان الفرس مُعَدٌّ، فالنصرة من عند الرب (أمثال٣١:٢١). فبعد أن نقّى الرب لجدعون الجيش، وقد أوصلهم إلى نسبة تُقارِب ١٪ فمن ٣٢٠٠٠ وصل إلى ٣٠٠، ولم يدخلوا الحرب بسيوفهم، بل بأبواق وجرار فارغة بها مصابيح، وحُسمت المعركة لصالح إسرائيل بقتل غراب وذئب أميري المديانيين.

عزيزي حياة الإيمان تستلزم علينا نفير الحرب الروحية الدائم، فما دُمتَ في أرض العدو لا تتوقع هدنة، فالعدو كالغراب يخطف وقتك وطاقتك، وكالذئب يمكر بحيله ليسقطك في الخطية. فلنسمع لتحذير بطرس مقتدين بجدعون «اُصْحُوا وَاسْهَرُوا لأَنَّ إِبْلِيسَ خَصْمَكُمْ كَأَسَدٍ زَائِرٍ... فَقَاوِمُوهُ رَاسِخِينَ فِي الإِيمَانِ.» (١بطرس٩،٨:٥)

٤-رجل الثقة

يحثنا الكتاب في عبرانيين١٦:٤، على التقدُّم إلى عرش النعمة، وبثقة، أي بعشم وبدون خجل، وهذا ما أظهره جدعون في عشرته مع الرب، لقد طلب منه علامة ليتأكد أن الرب سينجحه في حربه مع المديانيين، مع الأخذ في الاعتبار أن جدعون لم يتمتع بسكنى الروح القدس؛ فكان مقبولاً أن يطلب علامة، فعشمه في الرب جعله يطلب أن جزة الصوف، والتي كانوا يحتفظون بها من الغنم بعد تقديمها ذبائح للرب، تمتلئ بالندى في الصباح ويكون حولها جفاف، وقد كان، ولكن ثقة الإيمان تعمقت وطلبت انعكاس الأمر أن يكون الجفاف على الجزة والندى حولها، وقد كان.

عزيزي لم يتأفف الرب من جدعون، بل شجع إيمانه باستجابة فورية ليتأكد، بل وأكثر من ذلك شجعه بحلم مُفسَر على فم الأعداء: «وَكَانَ لَمَّا سَمِعَ جِدْعُونُ خَبَرَ الْحُلْمِ وَتَفْسِيرَهُ أَنَّهُ سَجَدَ...وَقَالَ: قُومُوا لأَنَّ الرَّبَّ قَدْ دَفَعَ إِلَى يَدِكُمْ جَيْشَ الْمِدْيَانِيِّينَ» (قضاة٩:٧-١٥).

يا لها من ثقة تنال من الرب وأكثر، فجدعون طلب علامة وتأكيدها والرب أعطاه، بل وأكثر شجعه بالحلم، عزيزي لنقتاد بجدعون شاهد الإيمان ولا نطرح ثقتنا التي لها مجازاة عظيمة (عبرانيين١٠ :٣٥).