الشيطان لم يتغير، وأهدافه كذلك؛ فهو يبغي تدمير البشر ومحاربة ملكوت الله. ولكن في عصرنا الحالي غيَّر من تكتيكاته، ونوَّع من مكائده، مستخدمًا التقدم العلمي والفضائي والتكنولوجي الرهيب، والتي عندما نلتفت إليها سنجد أنه استخدمها مع غيرنا، وذكرها الكتاب المقدس لتحذيرنا.
على الرغم من أن جميع الناس لديهم نقاط ضعفٍ يمكن العمل عليها وتحسينها، فإن الشخص الشاعر بالدونية يجمع كل نقاط ضعفه ويجعلها هي المقياس الذي يقيِّم به ذاته وأهميته، ونتيجةً لعيوبه (الحقيقية أو المتخيلة) يستنتج أنه غير مهم أو أقل نجاحًا بالنسبة للآخرين، وبالتالي يكون لهذا التصور أو التقييم أثار ونتائج سلبية.
وتصف جمعية علم النفس الأميركي (APA) الدونية بأنها “شعور قوي بعدم الكفاءة وانعدام الأمن، ناجم عن نقص جسدي أو نفسي حقيقي أو افتراض مُتخيل”، ويسمَّى هذا الشعور في علم النفس Inferiority Complex، وهو مصطلح أتى به الطبيب والمعالج النفسي النمساوي ألفرد أدلر Alfred Adler عام ١٩٠٧م، والذي عرَّف الدونية بالعقدة النفسية، أو الشعور الغامر بعدم الأهمية.
ويقول نفس العلماء إن أسباب الشعور بالدونية كثيرة، وتبدأ من التربية فالآباء عليهم مسؤولية أن ينمَّوا الشعور بالثقة في الذات لدى أبنائهم، وهناك أسباب جسدية فقد يكون لدى الإنسان إعاقة معينة أو عيب يراه في شكله يجعله يشعر أنه أقل من الآخرين، وهناك أسباب اجتماعية عندما يقلل المجتمع من شأن فئة معينة (اللاجئين مثلًا) أو مهنة معينة، وبالطبع ضاعفت وسائل التواصل الاجتماعي من الشعور بالدونية، بعد أن أصبح للإنسان آلاف المرايات التي يقارن شكله وعمله (وخدمته) بهم، فيشعر أنه دونهم!!
وسواء اتفقنا أو اختلفنا مع رأي علماء النفس، فمن السهل جدًا ملاحظة أثر الشعور بالدونية في حياتنا ومجتمعنا، صحيح أنه أقل من أن يُعتبَر مرض، لكنه أكبر من مجرد شعور. ولكن ما دور إبليس في كل هذا؟
من أنتم؟
الدور الإبليسي واضح ليس فقط لأنه «رَئِيسِ سُلْطَانِ الْهَوَاءِ» (أفسس٢: ٢) المتحكم في الميديا ونشر سمومها، ولا لأنه منبع الشر والفساد في التربية والمجتمع، لكن لأنه من بداية الكتاب المقدس، وإبليس يغار من الإنسان الذي خلقه الله على صورته، وسلَّطه على خليقته الرائعة. ولذا فلا يترك فرصة إلا ويقلِّل من صورة الإنسان أمام نفسه واستغل سقوط آدم في الخطية، وسقوطنا نحن معه، لكي يظل الإنسان في دوامة الشعور بالدونية بلا مخرج.
وهناك الكثير من هذه الصور في الكتاب المقدس، اختار منها واحدة تبدو معروفة للأغلبية، وهو ذلك اللقاء بين جليات الفلسطيني وبين شعب الله القديم، والذي كان فيه جليات رمزًا لإبليس، وقد نجح في خلق صورة ذهنية كاذبة في عقول من يحاربهم بأنهم أقل كثيرًا من القدرة على هزيمته.
فقال جليات: «لِمَاذَا تَخْرُجُونَ لِتَصْطَفُّوا لِلْحَرْبِ؟ أَمَا أَنَا الْفِلِسْطِينِيُّ، وَأَنْتُمْ عَبِيدٌ لِشَاوُلَ؟ اخْتَارُوا لأَنْفُسِكُمْ رَجُلاً وَلْيَنْزِلْ إِلَيَّ... أَنَا عَيَّرْتُ صُفُوفَ إِسْرَائِيلَ هذَا الْيَوْمَ. وَلَمَّا سَمِعَ شَاوُلُ وَجَمِيعُ إِسْرَائِيلَ كَلاَمَ الْفِلِسْطِينِيِّ هذَا ارْتَاعُوا وَخَافُوا جِدًّا» (١صموئيل١٧: ٨-١١)، فجليات هنا لا يُضخِّم فقط من قدراته (وهي هائلة فعلاً بالطول والملابس والأسلحة)، لكنه يحقِّر من الشعب ويصفهم بأنهم مجرد عبيد لشاول وليسوا جنود أو حتى رجال.
وهي ذات الخدعة التي يستخدمها معنا إبليس حتى الآن، ولغته: من أنتم؟ فيذكِّر المؤمنين إما بماضيهم السيء، أو بحاضرهم المليء بالتحديات، أو بمخاوفهم من الغد. وكل غرضه أن ننزوي في أمورنا الشخصية، فنكُف عن الحرب معه لصالح ملكوت الله الممتد.
من أنا؟
وفي وسط هذا المشهد يظهر فتى صغير، كانت لديه كل أسباب الشعور بالدونية، لكنه لم يتبناها من قريب أو بعيد؛ داود.
فهو الابن الأصغر ضمن ٨ أبناء، لرجل بسيط يسكن قرية بيت لحم الصغيرة، وقد تعامل معه أبوه وإخوته بكل النظرات المُحقرة من شأنه؛ فها هو أبوه يتجاهل وجوده بالمرة لدرجة أنه عندما أتى النبي صموئيل العظيم لبيت لحم، وهي مناسبة نادرة الحدوث، دعا يسى جميع أبنائه متجاهلاً داود، ولما سأله صموئيل أجاب: «بَقِيَ بَعْدُ الصَّغِيرُ وَهُوَذَا يَرْعَى الْغَنَمَ» (١صموئيل١٦: ١١).
وها هم إخوة داود الثلاثة الكبار يشتركون في الحرب، وعندما ذهب إليهم داود واستفسر عما يقوله جليات وعن مكافأة من يقتله، فما كان من أليآب أخو داود الأكبر إلا أن قال له: «لِمَاذَا نَزَلْتَ؟ وَعَلَى مَنْ تَرَكْتَ تِلْكَ الْغُنَيْمَاتِ الْقَلِيلَةَ فِي الْبَرِّيَّةِ؟ أَنَا عَلِمْتُ كِبْرِيَاءَكَ وَشَرَّ قَلْبِكَ، لأَنَّكَ إِنَّمَا نَزَلْتَ لِكَيْ تَرَى الْحَرْبَ» (١صموئيل١٧: ٢٨)، فيذكره أنه مجرد راعي لغُنيمات (تصغير غنم)، وأنه لا مكان للصغير داود وسط الحرب العملاقة.
لكن كل هذا لم يغيِّر من نظرة داود لنفسه، فلديه جذور من الاختبارات المخفية عن الجميع، وحكى لشاول الملك (الذي لم يأخذ كلامه على محمل الجد) قصة قتل داود للأسد والدب قائلاً: «الرَّبُّ الَّذِي أَنْقَذَنِي مِنْ يَدِ الأَسَدِ وَمِنْ يَدِ الدُّبِّ هُوَ يُنْقِذُنِي مِنْ يَدِ هذَا الْفِلِسْطِينِيِّ» (١صموئيل١٧: ٣٧).
من إلهي؟
أما عن الأمر الأخر الذي قد يسبب الدونية، فهي العيوب الشكلية، وفي حالة داود لم تكن إعاقة ولا عجز، ولكن كانت شكله الجميل، والذي يوحي بأنه فتى غير متدرب في الحرب، لدرجة أنه لما رآه جليات «وَلَمَّا نَظَرَ الْفِلِسْطِينِيُّ وَرَأَى دَاوُدَ اسْتَحْقَرَهُ لأَنَّهُ كَانَ غُلاَمًا وَأَشْقَرَ جَمِيلَ الْمَنْظَرِ. فَقَالَ الْفِلِسْطِينِيُّ لِدَاوُدَ: أَلَعَلِّي أَنَا كَلْبٌ حَتَّى أَنَّكَ تَأْتِي إِلَيَّ بِعِصِيٍّ؟ وَلَعَنَ الْفِلِسْطِينِيُّ دَاوُدَ بِآلِهَتِهِ» (١صموئيل١٧: ٤٢، ٤٣).
وهنا ينتصر مرة أخرى داود على الدونية، بسبب تمسكه بالرب إلهه، قائلاً لجليات (مندوب الشيطان): «وَأَنَا آتِي إِلَيْكَ بِاسْمِ رَبِّ الْجُنُودِ إِلهِ صُفُوفِ إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ عَيَّرْتَهُمْ. هذَا الْيَوْمَ يَحْبِسُكَ الرَّبُّ فِي يَدِي... لأَنَّ الْحَرْبَ لِلرَّبِّ وَهُوَ يَدْفَعُكُمْ لِيَدِنَا» (١صموئيل١٧: ٤٥- ٤٧).
فمهما كانت نظرة العائلة أو الناس أو الأعداء أو حتى داود لنفسه، نظرة حقيرة؛ لكن نظرة الرب لنا أننا أبطال وجبابرة بأس، وعلينا أن نعرف من هو الرب في ذاته، وكم هو عظيم ومهوب وقدير، وكم وهب لنا من بركات روحية نتمتع بها حاليًا، وهذا كافٍ جدًا لنزع أي شعور بالدونية قد يُسرِّبه إبليس إلينا.